في مثل هذا التاريخ، قبل سنة بضبط، مرّت ثورة سليمة عبر شوارع ومدن وأرياف الجزائر العميقة، ثورة بيضاء لم يتوقّعها النظام ولم تستشرفها الدراسات ولم يتنبأ بها المتابعون. انتفاضة أطاحت بمشروع العهدة الخامسة وأسقطت القوى غير الدستورية.
أحسن خلاص: قام الحراك بإقحام الشعب في عملية سياسية جماعية هدفها التغيير
أحسن خلاص، إعلامي ومحلّل سياسي ومتابعٌ للشأن الحراك الشعبي منذ لحظة ميلاده، في حوار مع "التر جزائر"، يتحدّث عن آفاق الحراك الشعبي وحصيلته، مآلاته وتحدّياته، وعن الخريطة السياسية والأيديولوجية للحراك وتجاذباتها السياسية.
اقرأ/ي أيضًا: حوار | زبيدة عسول: الانتخابات لن تحل الأزمة وشرعية الرئيس ستكون مهزوزة
يعتقد أحسن خلاص، أن ورشة الحراك الشعبي مازالت مفتوحة، وهي وإن أزالت مشروع العهدة الخامسة، إلا أنها لم تُفلح في تغيير النظام، وهو أمر يتطلّب نفسًا طويلًا، على حدّ قوله.
في هذا السياق، يقول المتحدث إن الحراك الشعبي لن يتوقّف، إلى غاية استعادة الشعب لسيادته وفق المادّة 07 من الدستور الجزائري، معتبرًا أن محاولات وأد الحراك من خلال التضييق وحملات الاعتقال، أعطته نفسًا جديدًا للمقاومة.
- ماذا حقّق الحراك الشعبي وماذا لم يحقّق؟
الحديث عما حقّق الحراك الشعبي، وما لم يحقّقه خلال سنة كاملة من انطلاقه، يستدعي عملية تقييم. والواقع أن الحراك حركته دوافع أكثر مما حركته أهداف، فضلًا عن أنه لا يحقّ إلى يومنا هذا، لأيّة جهة أن تدّعي ملكيته الفكرية والحركية؛ فهو ملك للجميع. لكن ومع هذا يمكن القول إن الحراك الشعبي من حيث هو لحظة وعيٍ ويقظة شعبية وأداة ضبط مواطنية لسير الأجهزة وسلوكات رجال السياسة وأداء المؤسّسات، فقد نجح إلى حدّ بعيد في إقامة ثورة ذهنية حقيقية، لا تزال مستمرة، ومن السابق لأوانه الحديث عن ثمارها الكاملة المكتملة.
وهي ثورة لا تتجلّى فقط في قلب سلم القيم السياسية السابقة، بل أزالت الكثير من الزيف الذي اعتراها، وصار الخطاب السياسي يخضع لموازين الصدقية أكثر ما كان عليه من قبل، أمام قوة الحراك كأداة يقظة وضبط.
يمكن أن يقال أيضًا، إنّ الحراك أدخل الشعب الجزائري في الفعل السياسي كعملية جماعية، بعد أن كان حكرًا على النخب التقليدية، التي تراجعت أمام الوعي الزاحف الذي غرسه الحراك.
ما لم يحقّقه الحراك هو هذا الذي بقي ولم يتحقّق بعد، لكن السير إليه قائم، وإن شعر أهل الحراك أن المسافة ليس قصيرة كما كانوا يتصوّرون، بل تتطلب نفسًا طويلًا، فقد أزال الولاية الخامسة للرئيس بوتفليقة، لكنّه لم يفلح بعد في تغيير النظام، الذي استطاع ضمان انتقال سلس للسلطة في صفوفه، غير أن ورشة الحراك لا تزال مفتوحة.
- توقع كثيرون أن الحراك الشعبي كحركة عفوية، سيخمد مع عامل الوقت، لكن الذي حصل هو العكس، في رأيك ما سرّ استمراريته؟
كما ذكرت من قبل، قام الحراك بإقحام الشعب في عملية سياسية جماعية هدفها التغيير، هي حركة جيل وعى بشكل حقيقي بعيدًا عن الشعارات الزائفة، أن الشعب هو صاحب السيادة الحقيقية، بعد أن لم يكن يتعدّى وعيه بذلك، مجرّد الاطلاع على مادّة صمّاء في الدستور رقمها 07 يمرّ عليها مرور الكرام.
ولن يتوقّف الحراك إلا بعد أن تتحقّق هذه المادة بشكل فعلي وحقيقي. ولأن لكل ثورة نظيرتها المضادّة، فقد تغذى الحراك من نظيرته، بعد أن أيقن بثبات مواقفه أمام عمليات التضييق الأمني والإعلامي، ومحاولات التشويه والتشويش والاعتقالات التي تعرّض لها طيلة سنة كاملة. لقد ساهمت محاولات وأد الحراك في استمراره وأعطته نفسًا جديدًا للمقاومة.
هل الحراك الشعبي حركة احتجاجية سياسية، أم تعبيرٌ عن تحوّلات مجتمعية؟
الحراك أكبر من أن يكون حركة احتجاجية سياسية، تنتهي بمجرّد تلبية مطالب مرفوعة.
هي حركة تاريخية ثقيلة، حرّرت الشعب بعد الحركة التاريخية التي حرّرت الأرض عام 1962، غير أن هذه الحركة لم تأت من العدم وليست وليدة الصدفة، بل هي تعبير عن تحوّلات اجتماعية وثقافية هامّة.
أغلب الشباب الذي انخرط في الحراك، من جيل ولد في التسعينيات من القرن الماضي، أي في عشرية مأساوية، هذا الجيل رأى كيف أن هدف المواطن كان محصورًا في تلك الفترة، في ضمان بقائه على قيد الحياة وضمان الحد الأدنى من الكفاف، ومع مرور الزمن ارتقت طموحات المواطن إلى حدود الاستفادة من توزيع الريع والتحويلات الاجتماعية، معتمدًا على قنوات زبائنية انتهازية أحيانًا، وعلى حركات احتجاجية اجتماعية مفتوحة أحيانًا أخرى، قبل أن يرتقي طموح المواطن إلى المشاركة السياسية في عملية تغيير شاملة للنظام، وهو تحوّل هامٌ في تاريخ الجزائر.
- استطاع الحراك أن يحتوي مختلف الحساسيات الأيدولوجية والتشكيلات السياسية، لكن هذا الاحتواء في الشارع، لم يتجسّد بوجود أرضية سياسية جامعة. في رأيك أين الخلل؟
ذكرت في إحدى المقالات التي كتبتها مؤخرًا حول الحراك، أن هذا الأخير يدرك جيدًا ما يرفض، فهو يرفض النظام القائم بعصبه ومؤسساته وذهنياته وسلوكاته، لكنه ترك شأن البدائل لظهور حركية سياسية جديدة تقوم بطرحها، وهو شأن التيّارات السياسية القائمة التي يبدو أن الخلفية الأيديولوجية لا تزال تغلب عليها، حيث نجدها أحيانا تتخذ من الساحات والشوارع فضاءً لمعركة مواقع، غير أن الحراك هو ذلك الكلّ الذي يتعدى مجموع أجزائه؛ فهو يحتوي هذه التيّارات كلها دون استثناء لكنه لا ينصهر فيها.
كل محاولات الطبقة السياسية، لبلورة أرضية سياسية جامعة باءت بالفشل، وسبب ذلك أن الأحزاب السياسية والتنظيمات، اعتقدت أنها مفوّضة للحديث باسمه، وإيصال مطالبه وتحويل هذه المطالب إلى ورقة تفاوضية تساوم بها السلطة. لكن السلطة وصلتها الرسالة جيدًا وحيدت الطبقة السياسية، دون أن تقترب هي من الحراك وتفتح الحوار المباشر مع المجتمع الحراكي غير المهيكل.
- الكل يشهد ويقرّ بالطابع السلمي للحراك الشعبي، رغم التضييقات والتحرّشات الأمنية، في رأيك أين مكمن قوّة سلمية الحراك؟
كما قلت، نحن أمام شعب لم يضمّد بعد جراح المأساة الوطنية، وهو يتابع عبر وسائل الإعلام تجربة الثورات العربية، التي تحوّلت إلى فتن وامتدادات وساحات حرب دموية بسبب تنازع أجندات إقليمية ودولية.
مبدأ السلمية ثابت وحيوي في الحراك، وهو سرّ استمراره وطول نفسه، وما دون السلمية يمكن أن يطرأ عليه التغيير مع مرور الوقت. هذا المبدأ اقتنعت به حتى التيّارات التي كانت طرفًا في مأساة التسعينيات من إسلاميين وديمقراطيين علمانيين. أيقن الجميع أن إثم العنف أكبر من نفعه، ومزايا السلمية أكبر من مآخذها. ثم أن المتظاهرين يواجهون قوّات أمن من صلب الشعب، وإن امتعضوا من تصرفات رجال الأمن فهم يدرجون ذلك ضمن إجراءات تسيير الحشود والضبط الأمني. الحراك لا يعتبر السلطة عدوًا يحاربه، بل يعتبرها خصمًا سياسيًا يسعى لتغييره بكل الوسائل السلمية والقانونية.
أحسن خلاص: أعتقد أنه ليس من ذكاء السلطة، أن تُحاول إنهاء الحراك بأيّ شكل من الأشكال
- في الأخير هل استفادت السلطة من الحراك، لو الجواب بنعم كيف في رأيك؟
الحراك نعمة على الجميع بما فيه السلطة، فقد مكّنها من تطهير صفوفها إلى حد ما، وأعطاها نفسًا جديدًا، تمامًا مثلما أعطت السلطة للحراك نفسًا جديدًا بعنادها. أعتقد أنه ليس من ذكاء السلطة، أن تُحاول إنهاء الحراك بأيّ شكل من الأشكال. لقد أنقذ الحراك السلطة من انهيار وشيك، ولأن السلطة في الجزائر لصيقة بالدولة، فقد صارت الدولة الجزائرية مهدّدة في كيانها وأمنها واستقرارها، لو استمر الإصرار على المضي في سياسة العهدة الخامسة الانتحارية، وتواصل نفوذ قوى المال الأوليغارشية. برنامج الحكومة اليوم، يتأسّس على الحراك الشعبي في الفقرات الأولى من ديباجته، وكأنه يبعث برسالة شكر وامتنان للحراك لما حققّه من فائدة لدوام النظام.
اقرأ/ي أيضًا:
حوار | جيلالي سفيان: السلطة أقحمت نفسها في الصراع الأيديولوجي لإضعاف الحراك
حوار| سمير قسيمي: زاد الحراك أسئلتي وأوقفني على عبثية الوجود