06-يونيو-2021

ويليام دي هيغينسون

يَحدُث في البلدان التي تكون عالقة عند قارعةِ طريقِ الثّورة، أن يجتمع المثقف بالحاكم في محاورة توصف بالجرأة، في غياب أصوات نخب سياسية تحترم الشعب وتتكلم بصوته، لنكتشف بعدها أن تلك المحاورة قد جاءت فقط على مقاس المُحاوَرِ وهواه، وندرك أن تلك التنازلات قد حصلت فقط من جهة واحدة على حساب "أخلاقية" المثقف وصورته، لأن الطرق التي ينتهجها هذا المُحاوِرُ المُتفائل في واقع مبهم من أجل تسويق فكرة ما، تبدو غير ناجعة في المجتمعات التي ما تزال تحت رحمة "ساسة" لا يعترفون بدوره الأساسي في بنية الفكر المجتمعي، (إذا ما كان ذا فكر لا يُشترى)، وتسكنها شعوب لا تؤمن به وبما يطرحه من قضايا لا تمثلهم في العموم.

يلجأ هذا المثقف الانتهازي إلى الاحتكاك بالحاكم بغية منح موقفه ذاك "شرعية براغماتية" تتحوّل مع الوقت إلى نوع من التبعية

من هنا، يلجأ هذا المثقف الانتهازي إلى الاحتكاك بالحاكم بغية منح موقفه ذاك "شرعية براغماتية" تتحوّل مع الوقت إلى نوع من التبعية التي لا تعمل سوى على تبييض صورة السياسي أو الحاكم أمام الرأي العام، واكتساب بضعة امتيازات مآلها الزوال مع مرور الوقت، وزوال تلك الفائدة التي يمنحها المثقف طوعًا.

اقرأ/ي أيضًا: حوار | محمد بن جبّار: الحراك الجزائري تجاوز المثقف والنخبة

بعد الثورات التي يكون وقودها الأول الشباب والعمال والبؤساء الذين أنهكتهم الأنظمة، يصعد إلى السطح نوع من المثقفين الذين يركبون القاطرة المثقلة في منتصف الطريق، وعوض أن يخففوا الحمل على من لا أفكار له للمضي في النضال، بوعي أكبر وفكر أرحب منفتح على جميع التوجهات، يثقلون الكاهل بالتسويق والتضليل، وينفثون سموم الاختلافات والإيديولوجيات بالتعاون مع السلطة لقطع مسار الثورة، فينتهي الأمر بهم كمثقفين منساقين يقبلون الوضع المفروض منها، كونه الشر الذي لا بدّ منه، ويروجون له بصفته القدر المحتوم الذي يقي الشعوب من غيلان الإسلاميين أو الديمقراطيين مثلا، أو ممن يعتبرونهم "رعاع المجتمع" و"مضرمي النيران" الذين هم بالأصل من أشعلوا تلك الثورة، ولولاهم لاستمر الحاكم في اعتبار المثقف قاصرا مُستغلا مثله مثل دابة يركبها لتصل به بشكل أسرع نحو وجهته.

يُسوِّق المثقف إذن، من خلال محاورة الحاكم الذي يواجه رفضًا شعبيًا يتعرض للتشتيت والتضييق والتخوين، لصوت يصرّ على إخضاعه للوفرة أو الكثرة، في حين يرى الحاكم صوتا أعلى بكثير أقلية لا يجب التعامل معها بجدية، ليعود هو نفسه، إلى التهليل لأقلية أخرى تم التسويق لها بدافع الديمقراطية على أنها من اختارته عبر الانتخاب.

من هنا، تفرض الذاتية المفرطة نفسها على سلوكيات ومواقف المثقف والحاكم في آن واحد، في مواجهة مواطن لا يعترف بهما أو بالأحرى لم يعد يأبه لوجودهما يوما بعد يوم، بقدر ما صار يهتم باستمرار حياته في منحى طبيعي واقتصاد قار يضمن الحد المعقول للمعيشة، بعيدًا عن السياسة والثقافة اللتين وُظِّفَتَا ضدّ إرادته، فلم يجد منهما فائدة، ولا دفةً توجهه نحو بر آمن.

 بعد كل هذا، لم يغنم هذا المواطن المغلوب على أمره استقرارًا يقوده إلى التفكير في حقوق أكبر مثل الحقّ في حرّية التعبير والمواطنة والدفاع عن معتقلين لا يكاد يعرفهم أو لا يدرك ما فعلوه من أجل الدفاع عن حقوقه لأنه غارق في مآسيه، يواجه بأمل متعب وعود الحاكم والمثقف بحياة سعيدة، ويغفل عن تجريم التعبير الحر والاعتقال الذي شرعه الحاكم وسكت عنه المثقف، فيبقى هذا المغلوب المغالِبُ دوما حبيس الاحتجاج والرفض والعوز ومطالب دون استجابة.

تبقى إذن فئة من المواطنين بعد هذه "اللقاءات الناعمة" راضية تحت إبر التخدير السياسي والثقافي

تبقى إذن فئة من المواطنين بعد هذه "اللقاءات الناعمة" راضية تحت إبر التخدير السياسي والثقافي، وتستمر تلك "الأقلية" المرفوضة المضطهدة الباقية منهم في الصراخ لإسماع صوت الفرد الذي مزقته الظروف المعيشية، في حين يتناول المثقف والحاكم معا قهوتهما في حوار هادئ، محاطَيْنِ بالبنيان الذي خلفه مستعمر جاء اليوم ليمنحهما مساحة في صحافته "الحرة"، لنشر محاورة لطيفة "صريحة جدًا "حيث لا وجود أبدا لـ "اعتراف بالخطايا".

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار | نصيرة محمدي: ولّد الحراك الشعبي سلوكًا تحرريًا

حوار | الهادي بوذيب: العقل الجزائري تشكّل في سياق المقاومة ورفض الإذلال