يتمّ عرض الفيلم الجزائري "بين وبين" لمخرجه محمد لخضر تاتي في ظهوره العالميّ الأوّل خلال فعاليات مهرجان البحر الأحمر السينمائي الدولي المنعقد خلال الفترة الممتدة من 5 إلى 14 كانون الأول/ ديسمبر الحالي في جدة بالمملكة العربية السعودية، حيث يتعرّف الجمهور هناك لأول مرة على هذه التجربة السينمائية "المُربكة" بصريا وكتابيا.
فيلم "بين وبين" الذي يعرض لأول مرة عالميا في مهرجان البحر الأحمر الدولي في جدة السعودية
يُقدمّ لنا هذا العمل من فئة أفلام الخيال خلال تسعين دقيقة، رؤى فنية وفلسفية تعالج موضوع التهريب الحدودي وحياة المهرب من منظور مختلف، كما ينتقل بنا المخرج وكاتب السيناريو بين الشخصيات المختلفة التي أثثت أحداث الفيلم، إضافة إلى توظيف الطبيعة والمكان والزمان من أجل خلق بيئة حدودية سوريالية تمنحنا فرصة الغوص في دواخل كلّ شخصية.
يعرِض هذا الفيلم عدة أسماء خَلَّفَت كلّ منها لمستها الخاصة في تسلسل الأحداث، أهمّها: سليم كشيوش، سليمان دازي، علي جبارة، إيدير بن عيبوش، هناء منصور وغيرهم من الشخصيات التي قد تدخل الجمهور في حالة قد يصعب الخروج من خيالاتها لمدة طويلة.
من جهة أخرى، وفي تعليق من مهرجان البحر الأحمر الفيلم، قيل عن "بين وبين":
"الفيلم صعب وآسر، ذو أجواء متوترة، تتخلله موسيقى تصويرية ديناميكية، يستكشف بعمق موضوعات الأسرة والصداقة ومحاولة البقاء اليومي".
في هذا الحوار، نتحدّث عن عرضه العالمي الأول، وعن ظروف تصويره، بالإضافة إلى أفكاره ككاتب ومخرج للفيلم، ونخوض في فلسفية هذا العمل، عن معالجة قضية التهريب عبر الحدود، التصوير والبيئة المختارة، الشخصيات، وعن آماله وطموحاته لهذا العمل.
محمد لخضر تاتي، مخرج وكاتب سيناريو جزائري من مواليد سنة 1971، درس الاقتصاد في جامعة الجزائر، ثم اتجه إلى تحقيق شغفه في السينما، حيث أخرج بعض الأفلام القصيرة خلال فترة العشرية السوداء.
هاجر محمد لخضر تاتي في سنة 2003 إلى فرنسا، وتابع هناك دراسته في تخصص الأدب الحديث، وخلال ذلك، قام بإخراج ثلاثة أفلام أخرى أضافها إلى رصيده، الفيلم القصير (اعتراف 2003)، والوثائقيان (العب في الظل 2006) و(في الصمت، أشعر أن الأرض تَلُفّ 2010).
خلال سنة 2017، أخرج أول فيلم طويل له (اعتنِ بنفسك) وهو وثائقي من ساعتين من إنتاج مشترك فرنسي جزائري.
يقدّم المخرج حاليا، فيلم "بين وبين" الذي يعرض لأول مرة عالميا في مهرجان البحر الأحمر الدولي في جدة السعودية، وهو من إنتاج (لاشومبر كلير- الجزائر) و (لا بوتي برود- فرنسا).
- لنتحدث في البداية عن العرض العالمي الأول للفيلم في مهرجان البحر الأحمر في جدّة.
تاتي: حسناء شخصية متعاونة للغاية ومتطوعة في العمل وقد تركت انطباعًا عظيمًا في نفسي سلاما لروحها
كيف وصل "بين وبين" إلى هناك، وما هي طموحاتكم لهذا العمل؟
لقد انتهينا من إنجاز الفيلم منذ وقت قريب، وقد كانت عملية طويلة.
كنا قد طلبنا الدعم المالي من مؤسسة مهرجان البحر الأحمر قبل بضعة أشهر لإنهاء أعمال ما بعد الإنتاج، لكن لم يتم منحنا المساعدة.
بعد ذلك بأيام قليلة، اتصل ممثل للمهرجان بالمنتج ليسأل عن إمكانية وضع الفيلم في قائمة الأفلام التي من المُحتمل أن تؤهّل للاختيار الرسمي، وها قد ذهبنا اليوم لتقديم العرض العالمي الأول للفيلم في جدة.
شخصياً، آمل أن يلتقي هذا الفيلم بجمهوره الواسع في الجزائر أولاً وفي أماكن أخرى كذلك.
- كيف تكوّنت وتجسّدت فكرة "بين وبين"؟
(الموضوع أو الثيمة، رمزية العنوان، السيناريو والكتابة، التصوير، اختيار الأماكن والممثلين، مدة التصوير ومدى صعوبة طرح الفيلم...
في الواقع، يشمل هذا السؤال حوالي سبع سنوات من التفكير في الكتابة والتحضير، إلى غاية مرحلة التصوير والوصول بالفيلم إلى عرضه العالمي الأول، لكن لنتحدث أولا عن فكرة الفيلم.
إنّ مسألة الحدود تهمني بما يتجاوز تمثيل مجرّد حاجزٍ فاصل إلى تمثيل مساحة غير محددة مصنوعة من عدم اليقين والمجهول.
وددت استحضار قصة قصيرة بقلم بول مورون، "فليش دوريون" (سهم الشرق) والتي تجعل من هذه الغرابة مكانًا لتشويه الفضاء والزمان عند الاقتراب من الحدود.
إن الحدود في خيالنا هي تلك المنطقة غير المُفَكَّرِ فيها، المتروكة جانباً، كما أنّها فضاء مُعاش، يزدهر فيه التوتر ويتحول عبر حيواتِ وتجارب النّاس في تلك المنطقة، إذ يمتلئ خيالهم بالقصص والمغامرات التي تجلب المدهش نحو المعتاد.
"بين وبين"، وعلى الرغم من أنّه لم يكن العنوان الأصلي للفيلم في البداية، إلاّ أنّه عمل على كل تأمّلاتي حول هذا الموضوع.
طبعا، فيلم "بين وبين" يعكس الصّدى الذي يمكن أن تكونه الحدود، لكن أيضًا وخاصةً، هو يعكس تلك الحالة الجمالية التي تُغَنَّى في الشّعر الملحون.
ما أسميه "جمالية" هنا، هو الوصف الذي يصنعه -مثلا-شِعرُ الحبيب المحجوز عليه، المحبوب الذي فوجئ بالحب ووجد نفسه معلقًا بشيء من وعي الذات وبالآخرين.
إنّ الأمر أشبه قليلا بما يُفصّله ابن عربي في تحليله للبرزخ (موقف الإنسان هو موقف البرزخ، فجوةٌ تصنع المكان) وهو -ما أراه شخصيا - مكان الشخصيات، مكان المَشَاهِد.
بالطبع، إنّ التهريب في الحدود قضية عالمية، وحيثما توجد حدود يكون التهريب، لكن ما أثار اهتمامي -على وجه التّحديد- كان تزامن المُباحِ المفروض من القانون، وكذا التّنميق الذي تفرِضه الحياة.
- لطالما كان التهريب عبر الحدود للبنزين لازالت قضية غامضة ومن المسكوت عنها في الجزائر، هل تعتقد أنّ معالجتها سينمائيا قد يكون بمثابة رسالة للفت الانتباه إلى أوضاع الناس في هذه المناطق ومعالجة مشاكلهم؟
شخصيا، آمل أن تصبح النظرة المُسلّطة على هذا النّشاط، وبشكل أخصّ على الأشخاص الذين يمارسونه مختلفة.
إنّ ما أثار اهتمامي في الحقيقة هو الصورة والخيال، لقد أردت إعادة النظر في مخيال المهرب في "بين وبين"، وددت أن أمنحه صورة مختلفة، أو أن يتم -على الأقل- التحاور حول الصّورة التي نتّخذها عنه.
كيف توصّلتم إلى فكرة مشاركة الرّاحلة حسناء البشارية في دورها المميز في هذا الفيلم؟ وما رمزية هذا الدّور؟
عندما بدأت في كتابة السيناريو، قمت بعدّة جولات في المنطقة والتقيت بالعديد من الأشخاص، كما تمّت دعوتي إلى حفلات بعض السّكان هناك، وأجريت مناقشات في المقاهي.
لاحظت أنّ للناس دائمًا قصص تُروى، الجميع كان لديهم قصص يحكونها، وأردت أن يكون للفيلم شخصيات تروي هذه القصص، لكنّني رغبت أيضا في أن يحكي الفيلم نفسه قِصَصَه الخاصّة.
هكذا، أردت استحضار "الزرقاوات" من خلال هذه الشخصية مع منتجي يوسف كراش الذي اقترح بدوره حسناء البشارية، وقد كانت فكرة رائعة بحق.
لقد وافقَت حسناء على لعب هذا الدّور على الرغم من التعب والمرض، إذ كان دافعها الوحيد هو الفضول.
كانت هذه السيدة شخصية متعاونة للغاية ومتطوعة في العمل، وقد تركت انطباعًا عظيمًا في نفسي، سلاما لروحها.
فيما يخص شخصية الفيلم، يعزز هذا الحضور فكرة "بين وبين" الذي يجعل شخصية "سعد" تنسج بين الحقيقي والتّصوّريّ الذي يعيده إلى مصيره المأساوي كإنجاز.
وبالعودة إلى ابن عربي الذي يُعتبر الكائن ميّتا كان أو حيّا مخلوقا اكتمالي، ونجد هذا المفهوم حاضرا بقوة في الشّعر الملحون أيضًا.
- لمسنا حوارية جميلة وعميقة بين الكاميرا وأماكن التصوير والمشاهد المجسدة للطبيعة في الفيلم.
هل ساعدتكم خيارات المكان والزمان في تجسيد روح الفيلم التي أردتموها؟
لقد كان اختيار الأماكن والمناظر الطبيعية لرواية الفيلم أساسيّ. سرعان ما علمت أنّنا لن نتمكّن من التصوير على الحدود، وكان من الضّروري إيجاد شيء بديل.
هناك، اخترنا عدم البحث عن ديكورات تكون مشابهة جدًا للحدود، بل حوّلنا ديكوراتنا إلى حدود.
كان من المفترض بالنّسبة لي، أن أحقن هذه الحدود الخيالية في الديكورات والمناظر الطبيعية التي رصدناها على جانب "تكوت" في باتنة (شرق الجزائر).
لقد أردت شيئًا من ثقل الحدود، وهو ما أسميته "تشتيت الزّمكان".
- هل تمّت مراعاة خصوصية المكان وثقافته ولهجته لدى اختيار الكاستينغ؟
كيف عملتم على ذلك؟
بالطبع، لقد عملنا على لغة ولهجة الشّخصيات لترسيخها في المشاهد التي تمّ اختيارها لرواية قصتنا، وكانت الفكرة في خلق مزيج من اللّهجات، والعُثور على كلمات تجعل العلاقة بالمكان أقوى.
كانت المشاهد مَعزاء، وأحيانًا صاخبة، وأردت مناظر طويلة يتردّد صداها، مثل تلك الوجوه التي يتردّد صداها أيضًا في الحجارة ذات الطبقات، والتي تشكل تراكمات المشاهد.
قمنا أيضا بالعمل على الانتقال البصري وقطع المشاهد في الفيلم.
أردت أن يكون جزءًا من فكرة الحدود، البتّ الذي يفصل ويعيد القراءة في الوقت نفسه، ولكن أيضًا خطوط مثل قطع المشاهد التي تزداد سمكًا وتخلق اتصالات خاطئة...
إنّه نوع من "بين وبين" الذي يزعج استمرارية الفضاء باعتبارها استمرارية متظاهرة لسرد الفيلم.
نلمس في الفيلم رؤى فلسفية وسوريالية، رسائل ورمزيات وُظِّفَت في مشاهد وحوارات هذا الفيلم، إضافة إلى التوظيف الفنّي للرّسم، وهو الشّيء الذي لا نراه كثيرا في السينما الجزائرية: هل هذه بوادر موجة جديدة من أفلام الخيال التي تبتعِد عن المواضيع المستهلكة والمعتادة في صناعة الأفلام في الجزائر؟
لا أدري إذا ما كان هذا الفيلم سيتبع موجة معينة في السينما الجزائرية أو لا، لكن على أي حال، لم يكن ذلك طموحنا أنا وطاقم الإنتاج من هذا العمل.
إنّ ما أردته، هو ما أسعى إليه عادة من خلال أفلامي، التّوظيف، التّسآل، وإعادة نشر خيال مُتجذّر في منطقة ما.
عندما أتحدث هنا عن الخيال، فأنا أقصد القصص التي نرويها، مواقفنا، الطّريقة التي تُسكَنُ بها المناطق، أسلوبنا في مُلاقاةِ العالم.
إنّ وجود الحيوانات مثلا في هذا الفيلم ليس سوى جانب واحد من كلّ هذا، وهذا ما يشرح أن هدفي من الفيلم ليس اتّباع موجة ما، بل كان العودة إلى الخيال.
تاتي: للناس دائمًا قصص تُروى الجميع كان لديهم قصص يحكونها وأردت أن يكون للفيلم شخصيات تروي هذه القصص
شاهدنا أسماء معروفة في التمثيل، وأخرى جديدة في هذا الفيلم ، هل اعتمدتم على وجوه من السكان في مكان التصوير؟ كيف كان التعاون هناك؟
نعم، لقد كنت حريصًا جدًا على مشاركة الناس من مدينة "تكوت" أو المنطقة عموما في الفيلم، وقد ساعدونا كثيرًا.
تمت دعوة الممثلين المحليين والهواة، وقد اخترت أيضًا بعض الأشخاص للعب شخصيات خاصة جدًا مثل شخصية "الضبع" على سبيل المثال.
خلق الفيلم رابط بين السينمائي والمهرب في الفيلم، تحدث على استحياء عن الحب، عن إشكالية تعريف الرجولة وقدسية العلاقات بين أفراد المكان، عن البقاء رهينة البينين في كل ذلك.
هل تظن أنّ الفيلم نجح في معالجة طرحه وإيصال روح الفكرة؟
سأدع سؤالك يجيب على نفسه، كل ما تمّ استحضاره من قِبلكم في هذا السؤال يُحاكي رغباتي في هذا الفيلم.
لذلك، وبالنهاية، آمل أن يلتقي هذا العمل بالجمهور، وفي تلك اللحظة سأتمكّن من القول إن نجح الفيلم أو لم ينجح في إيصال "روح الفكرة".