16-أغسطس-2019

الكاتب محمد بن زيان (فيسبوك/ الترا جزائر)

ثمّة نخبة من المثقفين والكتّاب والمتأمّلين في الجزائر، تملك رصيدًا كبيرًا من المخطوطات المهمّة، في أجناس وهواجس مختلفة، لكنّها لا تنشرها. زهدًا في بعض الأحيان وتهميشًا في أحيان أخرى. في مقابل نخب تتصدّر المشهد الأدبيّ والثقافيّ بأعمال يفترض أن تكون ضمن سلّة المهملات لو كان هذا المشهد صحّيًّا وخاضعًا لمعايير التّنقية على أساس الجماليات.

محمد بن زيان: "لقد تمّ إجهاض كثير من التّحوّلات الرّامزة بسبب افتقاد المحيط الحاضن"

يعدّ الكاتب والإعلاميّ محمّد بن زيان (1965)، واحدًا من النّخبة الأولى، التّي رافقت تمفصلات المشهد الثقافي والإعلامي الجزائري في عقوده الثلاثة الأخيرة، فتأثّرت بها وأثرت فيها، من خلال تنشيط مختلف الأفعال الثقافيّة، والكتابة عن تجاربها الإبداعيّة المضيئة، والتّأريخ لأحداثها التّي شكّلت ملامحها، وتفكيك سياقاتها ومقولاتها وتطوّراتها، وأرشفة مجالسها وجلساتها، فهي بهذا شاهد حقيقيّ ونزيه على واحدة من أهمّ المحطّات الثقافية والإعلامية والسياسية لجزائر العشرية السّوداء وما بعدها.

اقرأ/ي أيضًا: حوار | نصيرة محمدي: ولّد الحراك الشعبي سلوكًا تحرريًا

عايش صاحب كتاب "حرائق قلب" الصّادر عن دار "الوطن اليوم" بعض رفاقه يموتون موتًا رحيمًا، وآخرين يموتون موتًا عنيفًا، وآخرين يموتون موتًا معنويًّا، من خلال الانخراط في المنظومة السّائدة، أو الانسحاب من تفاصيل المشهد، لكنّه، رغم الفقد والمرض والعزلة والتنكّر، بقي وفيًّا لمواكبة ومعايشة هذه التّفاصيل، مثمّنًا للمضيء منها ومندّدًا بالمظلم، حيث يعدّ الخروج من حضرته شبيهًا بالخروج من حضرة القدّيسين والأولياء الصّالحين الأنقياء.

لحظة توقيع الكتاب الأول 

وهو بهذا شبيه تمامًا بـ"ميم" بطل روايته الأولى "متاهة المغراوي"، التّي تبنّتها دار "الجزائر تقرأ" ولم تصدر بعد. والذّي افتقد تحقّقه، وعاش الانكسار والإحباط. وكانت حياته مواعيدَ مع الخيبة. فالتبست سيرته بمسخ اجتاح المكان وجمّد الزّمن بدوّامة منهكة بالبحث عن علامات مكان توارت (وهران)، وعن تقويم يعيد الوصل بالحياة.

في هذا الحوار الذّي جمعه بـ"الترا جزائر" يرصد محمّد بن زيان أهمّ التحوّلات والقطائع، التّي شهدها المشهد الثقافي الجزائريّ. ويعود بنا إلى سياقاتها. ويقرأ الملامح الجديدة للإنسان والمكان، وهما يتطلّعان إلى غد مختلف، على ضوء تطلّعات الحراك الشّعبيّ والسّلميّ.

  • واكبت المشهد لثقافي الجزائريّ فعلًا وتفاعلًا وتوثيقًا على مدار 30 عامًا. ما هي المحطّات والهواجس والممارسات، التّي تراها بقيت راكدة، خلال هذه المدّة؟

المشهد الثقافي جزء من المشهد العام. وبقدر ما يعكس الوضع بتفاصيله السوسيو ـ سياسية،  فإنّه ينعكس أيضًا على تلك التّفاصيل. وما يمكن رصده أنّنا لا زلنا نفتقد إلى تثمين التّراكم  وهو ما أبقانا رهائن المربّعات المغلقة. ولا يمكن لأيّة تجربة أن تنضج إذا  لم تستثمر التّراكم بعقلانية وحسٍّ نقديٍّ.

في كلّ مرحلة كان المشهد الثقافيّ المؤشِّر الدّالَّ على طبيعة وحيثيات تلك المرحلة. ففي ثمانينيات القرن الماضي، مرحلة  خلخلة ما كان يعتبر مسلّمات مرسَّخة أيديولوجيًّا، فتراجع الهاجس الأيديولوجيّ وبدأ النّصّ يُسْكَنُ بالنّزعة الأنطولوجيّة، بإعادة تمثّل الذّات، التّي تم تذويبها في قالب الجماعة وبإعادة تمثّل للداّلّ، الذّي خضع سابقًا لهيمنة المدلول، واستعادة الجماليّ، الذّي همّش لصالح الوظيفة التّعبويّة.

لقد كانت في كلّ فترة إرهاصات تشكّل نوعيّ فاعل. لكن للأسف هيمن الرّكود نتيجة غياب التّواصل الأفقيّ، وتغييب الرّؤية التّأسيسيّة.

  • في المقابل، هل رصدت تحوّلات معيّنة في هذا المشهد؟ وهل قمنا بالاستثمار الكافي في هذه التحوّلات؟

كانت هناك تحوّلات مهمّة، لكنّها تعرّضت للبتر. فعقب استرجاع الاستقلال بدأت تشكّل مشهد نوعيّ متجاوز لكلّ الجدران العازلة. ويمكن تلخيص ذلك المشهد في تشكيلة مكتب اتّحاد الكتّاب، الذّي جمع كلّ التيّارات ومنح جائزته الأولى مناصفة بين محمّد ديب ومحمّد العيد آل خليفة، وتنقّل وفد بإشراف مولود معمري إلى مكتب محمّد العيد، وحملت صورة ذلك اللّقاء النّموذج الحلم.

في الثمانينيات مثلًا بدأت تبرز أصوات متحرّرة من التّنميط ومن السياجات المغلقة ـ بالتعبير الأركوني ـ  وصدرت في وهران مجلّة بعنوان "أصوات متعدّدة" بالعربيّة والفرنسيّة والأمازيغيّة ، جمعت أسماء مثل محمّد سحابة وعمّار بلّحسن و بختي بن عودة، لكنّها لم تستمرّ بسبب حملة إعلاميّة شعواء ضدّها. وكانت لمجلة "آمال" أيضًا مبادرة جديرة بالتّكرار في إطار ما يسمّى بالورشة، التّي كانت تناقش في كلّ مرّة أعمال كاتب معيّن.

لقد تمّ إجهاض كثير من التّحوّلات الرّامزة بسبب افتقاد المحيط الحاضن. فالتّحوّلات تحتاج إلى مصاحبة، وإلى أطر تواصل  أو بعبارة مختصرة إلى فضاء عموميّ وإلى ما يعبّر عنه نقديًّا بالحواريّة. فالتّجربة المسرحيّة لعبد القادر علّولة مثلًا تبلورت بجسور التّواصل، التّي هندسها مع النخب الجامعيّة والثقافيّة، التّي كان يشركها في متابعة مشاريعه ومناقشتها ويحافظ في الوقت نفسه على التّواصل مع الهامش.

  •  كيف تفسّر قيام المشهد الثقافيّ الجزائريّ لاحقًا على القطائع السّلبيّة؟ بحيث يجهل/ يلغي كلّ جيل ما قبله وما بعده؟

 القطائع العشوائيّة من العلل المزمنة، التّي رصدها من بحثوا في تاريخنا الثقافيّ كالمرحوم أبو القاسم سعد الله. ولتلك القطائع مسبّبات متعدّدة. بعضها يرتدّ لهيمنة السّياسيّ على الثقافيّ. بما جعل الأيديولوجيا هي المحدّد للتّعاطي والتّعامل. وكما قام السّياسيّ المتغلّب بصياغة مرجعيّة محدّدة لا موضع فيها لمن يختلف معه، فتبنّى قطاع واسع من المثقفين ذلك المنطق ونتيجة هيمنة النّمط الرّيعيّ تولّدت العلاقات الزّبائنيّة، التّي صاغت العلاقات حسب الولاءات للعصب والمجموعات.  

وبسبب تلك القطائع فقد الجزائريّ وعيه بهوّيته بكلّ أبعادها، افتقادًا جعلنا نعيش اليوم العطب، الذّي تعكسه منشورات وسائط التّواصل الاجتماعيّ.

  •  قلت إنّ للنظام السياسيّ القائم أدوارًا في هذا التصحّر الثقافي، لذي تعرفه البلاد. ما هو هامش المسؤوليّة، الذي تتحمّله النخب المثقفة في المقابل؟

يتحمّل النّظام المسؤوليّة في مدّ التّصحّر ثقافيًّا. لكن من عزّز ما اقترفه من خرابات وإجهاضات عيّنات ممّا يسمّى نخبة. في المقابل ثمّة من استثمر وجوده في مؤسّسات الدّولة لتفعيل المشهد وتحفيز الشّباب واحتضان الطّاقات. ويحضرني في هذا السّياق نموذج المرحوم مصطفى كاتب، الذّي وظّف موقعه كمشرف على التّنشيط الثقافيّ بوزارة التّعليم العالي في تحقيق ديناميكيّة يسجّلها له التّاريخ.

 محمد بن زيان في شوارع مدينة وهران
  • كيف ساهم ظهور مواقع التّواصل الاجتماعيّ في تكسير بعض الأصنام/ المقولات/ التّقاليد في المشهد الثقافي الجزائريّ؟

رغم كلّ ما يقال عن وسائل التّواصل الاجتماعيّ فإنّها خرقت الحصار ومدّت الجسور وأسقطت أقنعة البعض وأظهرت أصواتًا جديرة بالمتابعة والتحفيز، وأطاحت بالأبراج. ولا يمكن أن نربط تفشّي الوقاحة والابتذال وما ينتج عنهما  بوسائط التّواصل الاجتماعيّ فقط. فبدل اتهام تلك الوسائط يمكن طرح هذا السّؤال: كيف تستثمر النخبة تلك الوسائط؟ ومن يسوّق للوقاحة والابتذال في الأصل؟

علمًا أنّ الابتذال في حدّ ذاته قد يكون بلاغة مضادّة كما هو الحال مع كلمات أغنية الرّاي في بداياتها. حيث يلجأ الشّارع إلى الابتذال في إثبات ذاته، حين تصبح المدينة منخورة بالتحوّلات السّلبيّة المختلفة.

  • إذا أخذنا وهران نموذجًا للتّحوّلات السّلبيّة الحاصلة ثقافيًّا في المدينة الجزائريّة. ما الذّي سنقف عليه؟

فقدت وهران الكثير من خصوصياتها وممّا شكّل روحها كمدينة صاغها التثاقف والتلاقح مع الآخر المتعدّد. فقد كانت حتى مطلع التّسعينيات تحتضن نخبة نوعيّة في الأدب والعلوم الإنسانيّة والصّحافة والفن، لكن للأسف تعرّضت كما تعرّضت مدن أخرى لتخريب شنيع استهدف عمرانها ومعالمها وعلاماتها.

  • اذكر لنا بعض هذه المعالم/ العلامات الضّائعة.

وهران قصر الثقافة أيّام أمين الزّاوي ومالكي ولخضر منصوري. وهران "الكريديش" مع المرحوم عبد القادر جغلول. وهران المكتبة التي احتوتها الكاتدرائية فكانت قطبًا. وهران الجامعة والمسرح والسينماتيك. وهران مقاهي المنصورة وعدن والوداد. وهران المساجد العامرة بخطابات العمالقة. وهران النّادي الأدبي وملحق جريدة "الجمهوريّة". وهران الجمعيّة الثقافيّة. لقد أصبحت المدينة رهينة للعبث.

  • ما هي الأطراف المسؤولة عن هذا؟

إنّها متعددة. ولعلّ المتسبب الأساسي غياب سياسة حقيقيّة للتهيئة العمرانيّة وغياب رؤية تؤسّس لمخططات متناسبة مع خصوصيات كلّ منطقة. ولكن أيضًا المتسبّب بعض من تشكلوا فيها وتنكروا لها ولكلّ من شكّلهم ولم يؤدّوا ما يعبٍّر عنه مارسيل غوشيه بـ"دين المعنى".

  • هل ترى أنّ مسعى الحراك الشّعبي سيعمل على تحرير المشهد الثقافيّ أيضًا؟ وأنّه سيخلق بنى جديدة في التّفكير والسلوك الثقافيين؟

لقد صاغ الحراك تقويمًا جديدًا متجاوزًا لما قبل 22 فبراير/ شبّاط. واستعاد الفضاء العموميّ، فصارت السّاحات تشهد نقاشات وتصاحبها عروض مسرحيّين و موسيقيّين شباب ومعارض رسّامين. والأمل كبير في تحقّق التحوّل. وللدّقة قبل انطلاق الحراك بدأت تتشكل ملامح وإرهاصات كالمقاهي الثقافية وبعض المبادرات المستقلّة. فشباب الحراك تجاوزوا ما ترسّب وتحرّروا من منطق القطائع/ القطيع، شباب مسكون بشغف المعرفة، يتحدث عن بن نبي وأركون، عن ماسينيسا وسيفاكس، عن مصالي الحاج وفرحات عباس، عن عبد الحميد ابن باديس والشيخ بلكبير. رغم أنّ بعض من ينتسبون للنّخبة يخترقون ويشتغلون على تحريف الوجهة بإثارة معارك  لا محلّ لها في حراك يسعى إلى دولة الحقّ والقانون و إلى تحقيق المواطنة.

  • إلى جانب انتعاش نخبة راحت تزكي مقولات السّلطة القائمة.

إنّ الشّعوب من ساحات الجزائر إلى هونغ كونغ تصوغ بيانات الحياة. والهامش من هالرم إلى باب الواد يقول مع لوثر كينغ: "أملك حلمًا".  

إنّنا بصدد شعوب تجاوزت نخبًا مكرّسة تجاوزًا استوعبه أمثال أونفري ودفع إلى تسليم نوبل للآداب لبوب ديلان. فماذا يمثل أمثال محمّد لعقاب وسليم قلالة وأحسن تليلاني ومحمّد طيبي وإسماعيل دبّش وعامر رخيلة مقارنة بالمغنّي المرحوم عزّ الدّين الشّلفي؟

محمد بن زيان: "ما أكتبه في فيسبوك هو مقاومة لحال وحالة. هو محاولة التخلّص من الاختناق"

  •  يلمس المتابع لتدويناتك الفيسبوكية أنّك لست متفائلًا. ما سياق كلّ هذا التّشاؤم منك؟

ما أكتبه في فيسبوك هو مقاومة لحال وحالة. هو محاولة التخلّص من الاختناق، صياغة بديل لواقع محبط. فعندما أكتب لا أشتكي لأحد ولا أنتظر دعمًا من أحد. فقط أكتب للتحرّر. إنّني أسعى إلى أن أكون جامعًا، كما قال غرامشي، بين تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار | رباح بدعوش: الشعر هو الشاهد على الإنسانية

حوار | عبد الرزاق بلعقروز.. الهوّية معطى مفتوح على التجدّد والتعدّد