06-أبريل-2020

الكاتب يوسف بوذن (فيسبوك/الترا جزائر)

بروح وفضول وتأمّل السّارد، ومنطق ودقّة ونباهة المهندس المعماريّ، يُقارب القاص والمتخصّص في الهندسة المعمارية يوسف بوذن (1968) الأحداث والظواهر التي يشهدها محيطه الصغير والكبير.

إنه في نصوصه السردية، يلتصق بذاكرة وروح المكان والإنسان، بما يجعل النبرة الوجودية والصوفية مهيمنة عليها، بينما يلتصق في مقالاته وحواراته ومنشوراته في مواقع التواصل الاجتماعيّ بواقعه، فيفكّك سياقات التحوّل الذي يحصل في اللغة والفعل والتفكير والنفسية.

يوسف بوذن: من المؤكّد أن نحتجّ عندما يحضر الموت بهذه الطريقة التّي لا تحترم بروتوكول الحضور اللّطيف

لا يكفّ صاحب كتاب "صورة المدينة الجزائريّة: تحليل سيميائي"، والمجموعة القصصيّة: "وشمٌ في الذاكرة"، عن استدعاء أدوات علم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا واللسانيات والتاريخ والجغرافيا السياسية، وما جاورها من علوم تستهدف قراءة الوجود الإنسانيّ، ليلملم خيوط اللحظة التّي يعيش، فهي في نظره ثمرة لحقول متعدّدة، وكل تناول أحاديّ لها سيشكّل تعسّفًا.

اقرأ/ي أيضًا: حوار | محمد بن جبّار: الحراك الجزائري تجاوز المثقف والنخبة

نلمس هذه النزعة في هذا الحوار الذّي جمعه بـ"الترا جزائر"، حيث يقترب من كورونا ليس بصفته فيروسا يهدّد الصحة العامّة في الكوكب فقط، بل بصفته سياقًا كونيًا سيعمل على إزاحة واستدعاء رؤى وملامح وأساليب وأذواق قديمة وجديدة في الوقت نفسه.

ما هي القراءة الأولى التّي تنتابك بخصوص وباء كورونا؟

الوباء المجهريّ يُهدّد الجميع، فصار الموت قريبًا، في اليد والحُضن واللّمسة العابرة. كل إنسان يُصاب بالوباء. فيموت كلّ واحد بطريقة ما، حتى لو كانت ملامحه لا تشبهنا. لقد رسّخت العولمة الإنسانيّة قرارًا نهائيًّا، هو أنّ كلّ من يموت في هذه الظروف الحزينة، فكأنّما يُميت البشرية كلّها.

الجغرافيا الإنسانيّة تتألّم. ولكنّ مهندسي الغابة مازالوا يراهنون على الفوائد الاقتصادية والسياسية لتأبيد موازين القوّة والهيمنة.

هذا عن العالم الكبير وما يتعلّق به من سياسات دوليّة. هل رصد المهندس والباحث المعماريّ فيك ما يستدعي أن يقال عن العالم الصّغير/ البيت؟

اكتشفنا فجأةً أنّ هناك نقطة ثابتة، مركزٌ وتوازن، أطلقت عليه جميع الكتب اسم "البيت". والبيتُ يخاطبُ الخوف الدّاخليّ. يهوّن توتّر الخارج وأهواله.

"
الإنسان يعود إلى بيته!". جملةٌ فلسفية واسعة المعنى. كيف استطاع الإنسان أن يتذكّر أنّ له بيتًا، بعد أن كثّفت "ما بعد الحداثة" ملاحقته لينسى كلّ شيء. ينسى حتّى نفسه في فضائل التّرحال والتّيه؟

إنّ العودة إلى البيت كالعودة إلى الأصل. أوْبة إلى منبع يستطيع الإنسان أن يبدأ منه حكاية جديدة. وإنّ كلّ عودة إلى الأصل هي عودة للأرشيف الذّاتيّ. مشهد العودة إلى البيت، أو العودة إلى الأصل يقتضي فهم معناه في زمن بارد وخالٍ من السّرديات الكبرى كما قال "ليُوتار"، ربّما أخطأ في وصف النّهاية لأن الجغرافيا كبيرة وواسعة ومُركبّة. مازالت الإنسانيّة هناك تراهن على كتب مكنونة، وحكايات صغيرة، لكنّها دافئة المعاني، تراها أعمق من الغابة التّي وضعتنا فيها النّزعة الحداثيّة وغلّقت علينا الأبواب إلى الأبد. هذا هو معنى نهاية التاريخ، الآخرون لا يملكون الحق في الكلام كما لاحظت بحق "غياتري سبيفاك ".

ألا تراه مفهومًا جديدًا للعودة؟ حيث يتخلّص هذا الفعل من النّزعة النّكوصيّة السّلبيّة، ويتمخّض عن قيم ورؤى باتت الإنسانيّة محتاجةً إليها؟

 كلّ عودة إلى الأصل في ظلّ هذا السّياق هي عودة جديدة، وتجربة فريدة لا تشبه التجارب الأولى، اكتشافُ البيت إلى درجة أنّ خروجنا سيكون في ضميرنا بمثابة أول خروج في حياتنا. عاد النّاس إلى بيوتهم وبقيت النّزعة الحداثيّة بلا بيت. خطابٌ عارٍ من كلّ شيء عدا الحسابات والجداول والتوقّعات. العودة إلى البيت موتٌ صغير، قبر الحياة كما عبّرعنه خيالنا المنسي. موتوا قبل أن تموتوا كما قال الزّهاد في ثقافتنا الرّوحية.

هل يحضرك كاتب ما قارب هذا المقام من قبل؟

يكتب بورخيس ليخفّف من وطأة الزّمن على نفسه، كما نقرأ نحن الآن لنسهو قليلًا عن الموت المتربّص بنا خارج البيت. الشّعارات من قبيل "ابقَ في بيتك"، تُدّعم خيال كاتب آخر قادم من أفريقيا هذه المرّة: يأتي الخطر، كما يأتي البرابرة من خارج أسوار المدينة. ننتظره من كلّ الجهات وهذا متعب للجنديّ النّائم فينا!

لقد أجبر الوباءُ الخطابَ على تذكّر الباب، ما يفصلُ الدّاخل عن الخارج، عكس النافذة، فكأنّ موضوع الهوّيّة يعود كما جاء أوّل مرة.

وعلى طريقة بورخيس، الكاتب الأرجنتينيّ البارع، اتخيّل حكاية يستمرّ فيها الوباء إلى ما لا نهاية، كما في قصّته "كتاب الرمل"، كتاب اشتراه من إنسان مجهول مقابل نسخة من الكتاب المقدّس وراتب معاشه، لا أوّل له ولا آخر تمامًا مثل الرمل!

ماذا لو كان الوباء مثل حبات الرمل، يهبّ من حيث شاء ويبقى طالما شاءت العدوى أن تبقى؟

سنمكث في البيت. لا شيء يعادل القراءة لمقاومة الملل ونسيان الخطر، حيث ندخل مدينة الكلمات لألبرتو مانغويل، نفتح أبوابها على خواء حكايتنا القديمة. كنّا بلا معنى. وكلّما فتحنا نافذة رأينا جثث الموتى، فنصرّ على القراءة. كلّ ما يقع خارج البيت، خارجنا، ميّتٌ لا محالة. تجبرنا القراءة على الحياة، ويهددنا التوقّف بالفناء.

الوباء مثل حبّات الرّمل، ننسى الزّمن، فنعيد إنتاج سؤال: كم لبثنا؟ ولا ندري كم عدد الموتى؟ من يخرج من بيته، من يخون القراءة يموت في الخطوة القادمة. نقرأ سورة الكهف من دون أن نفتح المصحف، لأننا أصحاب الكهف والقراءة!

ما مغزى جعل بورخيس لنهاية الكابوس نهايةً سعيدة؟

يقترح علينا بورخيس نهاية سعيدة، فيُخبِّئ الكتاب المُفزع بين رفوف المكتبة الوطنية، وينسى المكان. يتجنّب حتّى عبور الشّارع المحاذي للمكتبة.

إنّها الطريقة الوحيدة لتحويل الكابوس إلى حلم.

كيف تذكرنا الحياة؟ ألم يكن الوجود الجزائريّ كئيبًا وخاويًا من ذلك المعنى الذّي انتظره الإنسان الجزائريّ لكنّه تأخّر إلى أن جاء الوباء؟

تقريبًا لم نجرّبْ الحياة بمعناها العميق إلا في مناسبات مُتفرّقة، لحظات عشوائيّة وفرح مؤقّت ثمّ سرعان ما نعود إلى وطننا الأصليّ: الإحساس بالموت البطيء.

لم أنجز دراسة اجتماعيّة للبرهنة على هذا الحكم الحزين، ولكن ملامح الإنسان الجزائريّ الحزينة تُجبرك على كتابتها بلون رماديّ، اللّغة نفسها تكتئب حين تستقبل حكاية يروي سكّانها موتهم اليوميّ بنفس المفردات.

ربّما لا نريد أن نموت بسرعة، ألفنا الموت البطيء، الإيقاع يسمح لنا بمراوغة الموت ذاتِه، فنطلب صداقته من دون أيِّ قناعة.

ربّما نخاف أن يموت النّاس وتموت آلامهم معهم، ونبقى نحن مع الموت البطيء، ننتظر، فأصعب مشهد في الحكاية هو مشهد الانتظار، ولذلك نقاوم لنبقى معًا ونتعذّب معًا. إنّه تضامن من نوع آخر لكنّه لم يرتقِ إلى مستوى السّادية.

هل نخاف على حياة الآخر أم نخاف من عدواه؟

 سؤال يفضح النّيّة. فجأةً اكتسبت الحياة معنًى من دون أن نحدّده، نبقى أحياءً من أجل ماذا؟ من المؤكّد أن نحتجّ عندما يحضر الموت بهذه الطريقة التّي لا تحترم بروتوكول الحضور اللّطيف، ونفكّر آليًّا في معارضة شكل الحضور. مرحبًا بالموت ولكن ليس بهذه الطريقة الجماعيّة. نريد موتًا فرديًّا لنكون حدثًا بالنّسبة للآخرين، نريد أن نتخيّل أسف وحزن الآخرين الأحياء لغيابنا الأخير.

يبدو أنّ الموت ارتكب هفوة لمّا جاء ليُنهي حياة كثيرين. ألم يخشَ فقدان هيبته ورمزيته كنهاية متوقّعة لكنها شريفة؟ من جمع الصور، صور الموتى، وقرّبها من بعضها البعض حتى صارت شريطًا طويلًا لموكب جنائزيّ كونيّ؟ من أراد أن يفسد العلاقة بيننا وبين الموت؟ من حوّله إلى عدوٍّ وخطر قادر على إبادة الإنسان من على وجه الأرض؟ هل ما زال الإنسان عزيزًا في قلب مؤلّف الرّواية الحديثة؟

تحدّد لنا الصّورالماكرة مكان إقامة الموت: إنه يسكن الشّرق، يأتي منه إلى باقي الجهات. الشرق هو مهد الموت، هكذا تقول جميع كتبه الجليلة، في حين لم تعد ذاكرة الغرب تطيق سماع كلمة موت، حتّى أنّها طردت مقابرها خارج المدينة لتنساه. الصّور تٌدين الشّرق لأنّه يُهدّد بالفناء حكاية الدّكتور "فاوست".

يجد مفهوم "التماسف" المتداول في علوم الاجتماع فرصة ذهبيّة لتجريب فعاليته. في الحالة المعدية يصبح المفهوم ضرورة حيويّة لتفادي الموت.

في الحقيقة، الأفكار معدية هي الأخرى وكذلك أساليب الحياة، ما المقصود بأمركة العالم مثلاً، أليست مشروعًا للعدوى الشاملة إلى حدّ المطابقة بين الذّات والآخر الأميركيّ؟ وهنا تطفو مضاعفات التبعية والاستلاب وغيرها من الاختيارات الفوضوية.

يذكّرنا الوباء "فيروس كورونا" بأنّ المسافة هي دائمًا مسافة نقديّة، حتّى مع موروثنا.

ما الذّي تقوله إذا أردنا أن نمارس هذه المسافة النّقديّة على الحراك الجزائريّ في زمن الوباء؟

على وقع الآثار الإنسانيّة الفادحة للوباء، تطالبنا روح الحراك بتعريف جديد يواكب ما يحدث في طبقات اللّامرئي من إعادة البنى في العلاقات.

الحراك وإن كان مشيًا مرئيًّا، لسانًا ويدين، مدًّا وجزرًا، إلّا أنّ هدفه الضّمنيّ يقوّض مناعة البنية الصّلبة بإجهادها بالتّوتّر المُتطلّب، ما يعادل ضيق التنفس والصداع والحمّى في حالة الإصابة بالوباء.

بهذا المعنى يمكن تصنيف الحراك ضمن أفراد الوباء الذّي يعرف جيِّدًا هدفه اللامرئي. إنّه لا يستهدف الأشخاص وإنّما أسلوب البنية في العمل. لنقل بإيجاز إنّه فيروس هارب من مخبر التّاريخ. إن تزامن الوباء مع الحراك يشكّل توترًا مُضاعفًا قد يحوّل ارتباك البنية إلى "أوهان" أخرى.

يوسف بوذن: ما يقال دينيًّا في مسألة الوباء يبدو متأخّرًا. لم تقنعني المٌرافقة والطريقة التّي اختارها المُتكّلمون

هل ترى أن الخطاب/ المنبر الدّينيّ كان موفّقًا في مرافقة لحظة الوباء؟

 ما يقال دينيًّا في مسألة الوباء يبدو متأخّرًا. لم تقنعني المٌرافقة والطريقة التّي اختارها المُتكّلمون. إنّها توحي بأنّ الدّين زائر دخيلٌ.

ماذا يمكن للدّين أن يُقدّمه للباطن لتعزيز الطمأنينة فيه؟ ما هو هذا الشّيء الثمين الذّي لن يقدّمه أحد أو جهة غيره؟

يمكن أن يكون الصّمتُ أبلغَ اقتراح. الصّمت كعلاقة مكنونة بين الإنسان وخالقه. لا تُفشى أسرارُها حتّى عندما يتفشّى الضُّر. من سمع نداء أيوب لولا وروده في الكتاب العزيز؟

يُقدّم لنا لسانُ العرب تعريفًا لطيفًا للصّمت، يضعه ضمن الأشياء الثمينة. الرّوح لا تثرثر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حوار | نصيرة محمدي: ولّد الحراك الشعبي سلوكًا تحرريًا

حوار | الهادي بوذيب: العقل الجزائري تشكّل في سياق المقاومة ورفض الإذلال