يتوقف الزوار الجزائريون والسياح الأجانب الذين يتنزهون في شرفات غوفي العالمية، الواقعة في أقصى جنوب ولاية باتنة، شرق الجزائر، عند مشهد يومي ثابت ومتكرر، لهذه المرأة التي تتمطى، في صبر وجلد، المدارج الحجرية الصاعدة في انحناء شاق من بطن قرية أث ميمون القديمة إلى الشرفة المركزية لأشهر المواقع الطبيعية في البلاد.
في كل يوم ، تقطع سعيدة تَافْسَاسْتْ، رغم نحافة جسمها وتقدم سنها وتقوس ظهرها، الطريق الأزلية، حاملة فوق كاهلها جبلاً من الأعشاب والأعلاف والأغراض
في كل يوم ، تقطع سعيدة تَافْسَاسْتْ، رغم نحافة جسمها وتقدم سنها وتقوس ظهرها، الطريق الأزلية، حاملة فوق كاهلها جبلاً من الأعشاب والأعلاف والأغراض، شاقة بها المسالك الوعرة، والمخانق المهلكة، رغم معاناتها من داء ضيق التنفس وآلام المفاصل.
قد لا تخلو الرحلة من مخاطر السقوط في المهاوي، ومن هجمات الأفاعي والخنازير والذئاب التي تستيقظ في الأوقات المتأخرة من المساء، لكنها تغالب سعالها الحاد لتتوقف برهة، تلتقط أنفاسها، ثم تواصل سعيها المحفوف بالمخاوف.
يسبب لها ذلك تعبًا ظاهرًا، لكنها تعيد هذا المشهد عدة مرات في اليوم، رغم حالتها الاجتماعية الهشة، وخطواتها الحلزونية الثقيلة التي تلقي بها قدمان تحتذيان نعالا بلاستيكية.
يسألها "الترا جزائر" عن السر الذي يدفعها لتجشم مشاق هذه المشاوير المضنية فترد بأمازيغية شاوية قحة: "أفعل ذلك من أجل مصدر رزقي الأول والأخير، فلدي بضع معزات وقطيع من الدجاج. فإذا لم أطعمهم فلن يفعل ذلك أحد بدلي".
أسألها مرة أخرى: "هل يساعدك أحد؟" فتضحك في مكر لترد: "نعم، ثمة شخص واحد يساعدني دائمًا وأود أن أشكره، ألا وهو: ذراعي، وكما يقول المثل: 'أضْربْ ذراعك تأكل المْسَّقي".
كلأ وبوتان
في عمرها الستيني، لا تزال سعيدة تافساست تعافر الشقاء والزمن وجيلا كاملاً من الذكريات. وفيما يعجز شبان عن النزول والصعود إلى أعماق مضائق شرفات غوفي التي يذكرك واديها السحيق بجبال الروكي والَڨران كانيون في الكولورادو الأمريكيين، تداوم المكافحة على مسار المقاتل بحمولة تنهك أعتى المصارعين.
خالتي سعيدة لـ "الترا جزائر": من كثرة التعب لم يعد التعب يعني لي شيئًا، فالعادة تفقد المرء الإحساس بالألم، فاسمي سعيدة لكني تعودت على الشقاء منذ زمن بعيد
تقول لـ"الترا جزائر" بصوت خافت: "أقطع 10 كيلومترات في كل نوبة، نزولاً من بيتي الواقع في قرية إيضّارن، و تعني الرجلين، المعلقة بين الكهوف لأبلغ قلعة أث ميمون، ومنها أعرج نحو المحلات الكائنة في الطريق العلوي. أصعد إلى هناك لأشتري الكلأ والعلف لحيواناتي، ولكي أجلب قارورة البوتان فوق ظهري. في الشتاء أراكم الكثير من الحطب تحسبًا لطوارئ نضوب الغاز، ما يحتم عليّ إيقادها لأتدفأ في أيام وليالي برد الشتاء القاسيات، بخاصة عندما تكسو الثلوج جبال شيليا والمحمل وأحمر خدو. ثمة صقيع سفّاح ينزل من هناك كما لو أنه سهام مسمومة".
من البديهي أن يسألها سائل عن التعب، بيد أنها تعقب: "من كثرة التعب لم يعد التعب يعني لي شيئًا، فالعادة تفقد المرء الإحساس بالألم، فاسمي سعيدة لكني تعودت على الشقاء منذ زمن بعيد"
لم أستغرب أن تسمي وحيدة أث ميمون الذراع شخصًا، ذلك ألا شخصًا سواها يعيش معها في البيت، إذ يمكنك أن تستشف فيها قساوة الوحدة، كما لو أن في كيان هذه المرأة المقاتلة حداد غائر، يطل من عينيها التائهتين.
حداد وأطلال
تقيم سعيدة في بيت طيني قديم مشيد بتقنيات دقيقة تجمع بين الحجارة والطين وجذوع الطاقة والنخيل، شأنه شأن بيوت قلاع أث ميمون وأث منصور وأث يحي، الكامنة في بطن الأخدود الأوراسي العظيم منذ ما يربو عن أربعة أو خمسة قرون. وفي خلوتها الأبدية تلك، لا وسائل عصرية، ولا تلفزيون ولا مذياع، بما أنه لا ماء ولا كهرباء ولا غاز ولا شبكة تطهير حتى.
تقول لـ "الترا جزائر": "أعيش في هذا البيت الترابي المهترئ منذ عقود، فيه ولدت، وعشت وترعرعت، وأمضيت حياة عائلية رفقة أبي وأمي وشقيقيَّ، مات أبي الطيب أو المصطفى، ثم لحقته أمي ولم يمضِ شهر حتى توفي شقيقي أيضًا، فبقيت بمفردي بين هذه الأطلال. لم يتبق لي سوى أخ وحيد يقيم رفقة زوجه وأولاده في غوفي".
أعيش في هذا البيت الترابي المهترئ منذ عقود، فيه ولدت، وعشت وترعرعت، وأمضيت حياة عائلية رفقة أبي وأمي وشقيقيَّ
أسألها عن عام الحزن الذي ألم بها، لكنها لا تتذكر التاريخ، فهي لم تدخل المدرسة يومًا، ولا تعرف عدد السنين والحساب، كما لم يسبق لها وأن قضت ليلة واحدة خارج بيتها منذ ستين عامًا. تقول لي في شبه دعابة قاسية: "لم أغادر يومًا ذلك البيت في تلك القرية، بل القرية هي التي غادرتني. وما من أحد يعيش فيها غيري. لا أخرج منها سوى من أجل الذهاب للطبيب في باتنة وبسكرة وأريس، ثم لا ألبث وأن أعود إلى 'أهل بيتي'، وهم قططي وعنزاتي ودجاجاتي وكلابي".
حدائق بابل
أطلق السكان على هذه المرأة التي تعيش حياة الرجل النياندرتالي الأول عدة مسميات طريفة مثل "شقيقة ماوكلي"، أو جدية على غرار "حي بن يقظان" أو "روبنسون كروزو"، نظراً لتشابه يومياتها مع يوميات أبطال تلك الروايات الخيالية، التي جسدت تيمة تحدي المصير، والبقاء على قيد الحياة بأدنى الوسائل الطبيعية المتاحة، لكن سعيدة ليست أسطورة، بل امرأة تمثل بعمق مأساة العيش ببطولة كما تمثال ظل صامدًا في وجه الزمن رغم عوامل الصدأ، وهي تستمد ذلك الأمل الخافت من ضوء الذكريات، فتقول: "لا أستطيع العيش بعيدًا عن هذا البيت وهذه القرية المهجورة. لا أستطيع أن أهجر عنزاتي ودجاجي". ثم كما لو أنها لا تزال مقيمة في الذكريات، التي تكبلها بقيود من حنين لزمن مضى، أو كما شاهدة عالقة بين عصرين.
أطلق السكان على هذه المرأة التي تعيش حياة الرجل النياندرتالي الأول عدة مسميات طريفة مثل "شقيقة ماوكلي"، أو جدية على غرار "حي بن يقظان" أو "روبنسون كروزو"
وتضيف: "يا حسرتاه فقبل سنوات طويلة، كانت غوفي مثل الجنائن السحرية المعلقة، فقد دأب الوادي الأبيض العامر بالأسماك على سقاية تلك البساتين على الدوام فتنتج غلالًا شهية، من خوخ وتين ورمان ومشمش، وكان السياح الأجانب يقطعون الأخدود العظيم رفقة الراحل حرودة على طول 50 كلم من تابعليت حتى منطقة لحبال ببانيان، كما كان النسوة يتجمعن لغسل الثياب بأرجلهن قرب الصخور، وهن يصدحن بأهازيج أوراسية قديمة، ثم ومع مرور الزمن، يموت البشر وتشيخ البساتين جرّاء شح الماء، ثم تتبدل الأحوال إلى أهوال".
في واقع الحال، تفتت النسيج الاجتماعي لذلك المجتمع التقليدي الذي كان يملأ المكان بالحياة، على مراحل، بدءًا من سنوات العشرية الحمراء التي دقت أول مسمار في نعش ذلك العالم البهيج، ثم استفحلت منذ مطلع سنوات الألفين، جرّاء فيضان الوادي عام 2006 الذي جرف معائش وأراضٍ كثيرة، ثم تكرست القتامة بهجرة جماعية بشكل مأساوي مع تلاحق موجات الجفاف وتراجع منسوب الوادي الملوث.
وحيدة بين الذئاب
تصمت لتلقي نظرة على زاوية بوثزمورث أو "بو زيتونة"، لتضيف: "قبل سنوات غادر الناس القرية تباعًا، حتى أصبحت المتبقية الوحيدة في موطن بلا سكان، ولم أقوى على المغادرة لأن تلك المنطقة هي بلادي، ولدينا فيها قطعة أرض فلاحية جرف الوادي شطرًا منها.
وتتابع: " أعمل بها نهارًا ثم أتقاسم ليلي مع الذئاب العاوية والخنازير البرية، فقد خضت معارك بالحجارة مع ذئاب قضت على بعض دجاجاتي ومعزاتي. أما عندما يأتي الصيف فأعلن الطوارئ اتقاء ثعابين الكوبرا والعقارب التي توقظها الشمس الحارة من سباتها العميق بين الصخور، وغير ما مرة كدت أن أهلك بعظات ولدغات السحالي".
حياة الماعز
تقوم سعيدة بأشغال فلاحية تساعدها على نزر من العيش تحت بند اقتصاد الكفاف، مثل غراسة البطاطا والبصل والثوم، والاعتناء بقطيع الماعز، فتجلب لهم الكلأ والعلف، بخاصة بعدما صار شقيقها المتبقي قعيدًا في بيته العائلي بغوفي، جراء سقوطه من نخلة، ليتبدى لك جزء آخر من حياتها، عنوانه التضحية بما تبقى في جسدها من جهد وصحة في تكاليف شاقة من أجل الآخرين.
تبيع الحليب الذي تدره العنزات العزيزات على قلبها، لكن وعندما تقتضي الحاجة الماسة، فإنها تضحي مكرهةً بواحدة منها، فتبيعها لضمان الخبز اليومي. يكشف لي واحد من معارفها المقربين أنها غالبًا ما تقول: "أنا مثل العنزة تمامًا، لا أأكل على الدوام، لكني لا أفرط في الطعام متى توفر لي".
تقوم سعيدة بأشغال فلاحية تساعدها على نزر من العيش تحت بند اقتصاد الكفاف، مثل غراسة البطاطا والبصل والثوم، والاعتناء بقطيع الماع
ثم ونحن نتقاسم وجبة في عمق الوادي، تشتكي لي من الجفاف الحاد المستمر منذ خمس سنوات عجاف، لتبث لي خوفها على حياة الماعز، الذي بات لا يجد العلف الكافي، ما يعني مصاريف إضافية لضمان بقائه، فتقول: "من أين لي أن أدفع ديون العلف التي اقتنيت، البالغة 2.5 مليون سنتيم، فسعر بالة الڨرط - البرسيم- يبلغ اليوم ما بين دج 1100 و1200 دج، ولولا مساعدة الناس وعطف المحسنين بالصدقات، لانتهت عنزاتي وانتهت حياتي معها".
مقاومة الفناء
تحولت خالتي سعيدة، كما تسمى، والتي يعود أصل عائلتها الأول إلى قبيلة بني ملكم المهاجرة نحو ناث ميمون، إلى طابع بريدي وبطاقة تعريفية لمنطقة غوفي، حيث تحتل صورتها أغلب ألبومات المصورين المحترفين والهواة، كوجه بارز لا يمكن تصور عالم غوفي دونها. وفي آخر مرة، اختارت جمعية مهابة ناث ميمون الفلاحية أن توشحها في صدر أفيشها الإعلاني عن نشاط بيئي لإعادة الحياة لحدائق بابل المنسية، بما صارت تمثله من جاذبية وحضور في المشهد البصري للأوراس.
في الغالب تستقطب الصورة السياحية لسعيدة، مئات الزوار الذين يقضون يوما استجماميًا في الشرفات، كما لو أن مظهرها تجسيد فولكلوري ساذج عن المرأة الريفية التي تكابد قساوة الطبيعة وشظف العيش، وتربط فوق ظهرها رزما من العرعار والشيح والأغصان وصفائح غاز البوتان، التي تنوء عن حملها الجبال، فيلتقطون معها الصور تقديرًا لعزيمتها، دون أن يبدوا شيئًا من الحزن على مصيرها.
قبل سنوات منحتها السلطات المحلية سكنا اجتماعيا في بلدية غسيرة، غير أنها لم تقو على العيش فيه
ولهذا السبب تحديدًا، يُظهر سكان غوفي والمناطق المجاورة لها الكثير من العطف والإحسان، عبر تقديم المساعدات كي تظل صامدة. كما تحظى المتبقية بكثير من الإجلال، لما تمثله في الوعي الباطن والظاهر من رمزية، التشبث بالأرض، والصراع اليومي من أجل البقاء، ومقاومة الفناء بطريقة مأساوية حتى الرمق الأخير. ولا غرابة في ذلك، فكلمة "تافساست" تعني بالشاوية نبتة تعيش على ضفاف الوادي.
أما هي، التي طالما انتظرت أن تجد راحة بعد عمر طويل من التعب والمشقة، فتستمر في حياة بعيدة عن الحياة الحقيقية، تتدحرج بين الثناء على مقاومتها، والشفقة على نهايتها، حيث لا أنيس لها في وحدتها، سوى مواء القطط وثغاء العنز ونباح الكلاب.
قبل سنوات منحتها السلطات المحلية سكنا اجتماعيا في بلدية غسيرة، غير أنها لم تقو على العيش فيه، والسبب كما تختم لـ" الترا جزائر": كتب عليّ قدرُ العيش أن أبقى جنب عنزاتي. يوم تموت عنزاتي سأرحل، ربما، إلى بيتي الجديد، وإنه لأمر شبه مستحيل".