07-أبريل-2019

تجلت السخرية السياسية في الحراك الشعبي (أ.ف.ب)

في سياق كهذا الذي تمرّ به الجزائر، ظهرت حاجة إلى الضّحك وإلى ممارسة السخرية، وهو ما لمسناه في بعض الشعارات التي رفعها المتظاهرون، و حتّى في المنشورات الفيسبوكية، سواء أكانت في شكل نكت أو صور مركبة، أو فيديوهات خضعت لمونتاج جديد.

بالعودة لتاريخ الضحك نجد أنّه ارتبط كثيرًا بالنقد السياسي للسلطة لأنّ قوة خطابه تكمن في إزالة هالة القداسة عن الشخصية السياسية

يُعرف عن الجزائريين ميلهم الطبيعي إلى التنكيت وإلى الضحك، كمظهر من مظاهر الحيوية التي يتمتع بها حتى في أشد المراحل التاريخية صعوبة، فما قيل عن الرئيس الجزائري الراحل الشاذلي بن جديد من نكت تكفي لملئ مصنفات بأكملها، على الرغم من أنّ السلطة آنذاك كانت تحكم بقبضة من حديد، بل أنّ هناك نُكت رُويت عن الإرهاب والإرهابيين؛ فالتنكيت طريقة ساخرة لتوجيه النقد للسلطة السياسية.

اقرأ/ي أيضًا: النكتة السياسية عربيًا.. سرديات المقهورين

وإذا عدنا إلى تاريخ الضحك، فإننا نكتشف بأنّه ارتبط كثيرًا بالنقد السياسي للسلطة، لأنّ قوة خطابه تكمن في إزالة هالة القداسة عن الشخصية السياسية؛ فقد برزت شخصية المهرج في عصر الإقطاعية الأوروبية وسلطة الكنيسة، لتتصدر الكرنفالات الشعبية التي كانت تقام في المدن الأوروبية الكبرى، فضلًا عن الطقوس الفنية التي كانت توضع فيها أقنعة تجسد شخصيات سياسية، فيقوم الممثلون بمحاكاتهم وتقليدهم بشكل ساخر. فكانت إثارة الضحك عند الجمهور بمثابة تنبيههم إلى أخطاء السياسيين ونقدهم.

يقول الناقد الروسي ميخائيل باختين في كتابه المرجعي "أعمال فرانسوا رابليه والثقافة الشعبية في العصر الوسيط وإبان عصر النهضة"، إنّ "المبدأ الهزلي الذي يحكم شعائر الكرنفال يحررها كليًا من أي دوغمائية دينية أو كنسية، ومن أي زهدية أو ورع. إنها بالإضافة إلى ذلك خالية تمامًا من الطابع السحري أو الابتهالي".

يؤكد باختين من خلال هذا الفقرة، بأنّ الموقف الهزلي هو الموقف النقيض للورع والابتهال والجدية التي هي سمة الخطاب الكنسي في أوروبا في تلك الفترة، لذا جاءت الكرنفالات الشعبية، لتعيد الثقافة إلى جذرها الأرضي، بعد أن كانت سجينة الدوغمائية الدينية.

كما أنه لا فرق بين الورع الديني وبين التجهم السياسي، فالمسافة بين الملك ورجل الكنيسة كانت متقاربة جدًا، بل ظلاّ متحالفان ضد الشعب، كما أنهما كانا يشتركان في موقفهما المنتقد لثقافة الهزل والضحك والسخرية.

لا يُمكن أن نفصل الضحك عن حيوية اليومي، فالمسيرات التي رفعت شعارات ساخرة، كانت أيضا تعبّر عن إزالة المسافة بين الفن والحياة، أو بتعبير باختين دائما، إنها الحياة بذاتها مقدمة بسمات اللعب المميزة.

 يُجسّد هذا الجانب اللعبي في المسيرات (تجسيد شخصيات من النظام بدمى أو بممثلين فوق كراسي متحركة، أو قطعة كاشير كبيرة جدًا، أو معلقة إلى صنارات لاصطياد المواليين للنظام... إلخ)، الطاقة الإبداعية في الشعب، أو ما يسميه الألمان بـ"عبقرية الشعب".

من الأهمية بمكان قراءة هذا المُعطى بانتباه شديد؛ لأنّ الضحك قد يكون أشد إيلامًا على السياسي الفاشل من أي شكل آخر من الانتقاد، لأنّه فجأة يتعرى أمام الشعارات، فيفقد قداسته، أو بالأحرى يسقط قناعه الذي كان يظهر به للناس وكأنّه كائن علوي مطلق القوة. إذ لا يمكن أن تهرب من نكتة لاذعة، لأنها ستلاحقك حتى إلى قبرك.

واليوم، نشهد تحول خطاب السخرية من التنكيت، وهو الشكل التقليدي للتعبير الشعبي عن الضحك، إلى توظيف الصور والفيديوهات ومعالجتها بحيث تخلق حالات من المفارقة الهزلية؛ فالصورة اليوم، الثابتة والمتحركة، أضحت أسلوبًا جديدًا للتنكيت، تحظى بانتشار واسع في مواقع التواصل الاجتماعي.

إنّ روح الشعب هي من طبيعة احتفالية، عكس روح السلطة العابسة المؤطرة داخل قواعد جادة وجافة

وسنلاحظ أنّ هناك طاقة إبداعية كبيرة عبّر عنها الشباب، كشفت عن البون الواسع بين جيل الألفية والجيل القديم بأساليب تفكيره. لقد حرر الشارع الجزائري النكتة من شكلها القديم.

اقرأ/ي أيضًا: أهازيج الألتراس.. هنا صُنعت الأناشيد الرسمية للحراك الشعبي

لا يمكن للضحك أن يتحول إلى فعل سياسي إلا إذا توفّر على هامش كبير من الحرية، وإلاّ فإنّه في ظروف السلطة القمعية ستحاول السلطة بكل وسائلها الحد من هذا التعبير، ولعلنا نتذكر حصة جرنان القوسطو التي تعرضت للتضييق قبل منع الحصة نهائيًا، بسبب طابعها الساخر الذي طال رموز النظام، من خلال مجموعة من الحلقات التي تتعرض لأحداث سياسية راهنة بقالب هزلي. فالضحك يتنفس من الحرية، بل هو أيضًا نضال لأجل الحرية في حالات التضييق التي يمكن أن يتعرض لها هذا الشكل من التعبير.

إنّ الحراك السياسي اليوم يحمل الكثير من سيمات الكرنفالية التي تحدث عنها باختين في كتابه سالف الذكر. والكرنفالية لا تعني ذلك المعنى السلبي الذي ربما قد ترسّخ في ذهن الكثيرين، وهو المعنى اللصيق بالتفاهة وبالسذاجة (على النحو الذي أبرزه الفيلم الجزائري "كرنفال في دشرة" بطولة الممثل الرائع عثمان عليوات)، بل الكرنفال، وإذا عُدنا إلى أصوله الاجتماعية في أوروبا العصور الوسطى، كان يجسد الانبثاق الحقيقي لحياة الشعب، وهو حياة الشعب الثانية.

لا يمكن تصوّر مجتمع الحريات يقوده أشخاص يرفضون النقد الذاتي، وإن حدث هذا فهو أكيد جزء من القدر الساخر

إنّ روح الشعب هي من طبيعة احتفالية، عكس روح السلطة العابسة المؤطرة داخل قواعد جادة وجافة. ومن الخطأ الإعتقاد بأنّ الكرنفال الشعبي خال من المعنى، بل هو العكس من ذلك تمامًا؛ إنّه يحمل رؤية للعالم، ويحمل فلسفة عميقة للحياة جسدته آنذاك نصوص أدبية هزلية عبرت عن روح الكرنفالية (رابليه، شكسبير، سيرفانتس)، إذا لم نقل أنّه يجسد المعاني الحقيقية للحياة بما هي فرجة، وضحك، وجسد، و سعادة.

في عصر الإقطاع، كان المجتمع الأوروبي مقسمًا إلى فئة حاكمة باسم الملك والإله، وعموم الشعب الذين لم يُترك لهم إلاّ الفقر والله. وكانت السلطة تقيم احتفالاتها الرسمية، من خلال إبراز الفرق الشاسع بين الطبقة الحاكمة وعموم الناس من الرعايا والعبيد، لهذا فإنّ ظهور الكرنفال لم يخل لحظتها من دلالة سياسية، خصوصًا أنّه المناسبة الوحيدة التي كان الشعب يمارس فيها حريته من خلال مجموعة من الطقوس والفنون الشعبية، ومن خلالها كانوا يسخرون من الملك ومن رجال الدين، حتى لا نقول من الكتاب المقدس نفسه! 

وهنا أبرز باختين الفرق بين الاحتفال الرسمي وبين الكرنفال الشعبي، فالأول يتميز بخاصية نخبوية يقتصر على صفوة المجتمع، ويكون حريصًا على الفصل بين الطبقات الاجتماعية. أما الكرنفال الشعبي فيلغي هذه الفروقات، ولو إلى حين، فيصبح الجميع بين غني وفقير، ومتعلم وأمي في مستوى واحد. وبسقوط هذه الفروقات الاجتماعية تتوحد اللغة الاجتماعية نفسها، وتتجرد من حشمتها، وبذلك تقوم بتحرير الأصوات من الطابوهات الأخلاقية والسياسية والاجتماعية.

هذا ما لاحظناه في لغة الشعارات، وفي لغة المنشورات التي رافقت الحراك، فلم يعد أحد يسأل عن المستوى الدراسي ولا عن طبقته الاجتماعية ولا عن انتمائه الجغرافي أو الهووي أو العقائدي، بل أصبحت الأغلبية تتحدث عن ضرورة تجاوز هذه الفروقات، ولو مؤقتًا.

 هذا يعني بأننّا إزاء حالة كرنفالية حقيقية، حيث لم تعد الانتماءات الاجتماعية والدينية والسياسية واللغوية تطرح نفسها، فالكل مندمج في الكتلة البشرية، كأنها التحمت في جسد واحد، وصدحت بصوت واحد. إننا نشهد هنا إعادة نسج العلاقات الاجتماعية من جديد، وقد أعحبني باختين حين وصّف هذه الظاهرة بأنّها التحام الطوباوي بالواقعي.

الحراك الشعبي هو حالة كرنفالية حقيقية حيث لم تعد الانتماءات تطرح نفسها، فالكل مندمج في الكتلة البشرية كأنها التحمت جسدًا واحدًا

وبالعودة للضحك، فإن ما نشره الجزائريون يسمح لنا أن ننظر إلى العالم كحالة هزلية، وإلى الرجل السياسي كمهرج يثير الضحك بتناقضاته. لكن ثمة سمة جوهرية في كلّ هذا وهي أنّ الجزائري نفسه وضع نفسه هدفًا لنكته، وهذا يمكن نسبه  إلى النقد الذاتي، الذي هو ضروري جدًا، خاصة في هذه المرحلة، فلا يمكن تصوّر مجتمع الحريات يقوده أشخاص يرفضون النقد الذاتي، وإن حدث هذا فهو أكيد جزء من القدر الساخر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

جيل الحراك الجزائري.. النهر الذي فاجأ الجميع

التعري وتخييط الأفواه وحرث الطرق.. طرق مبتكرة للاحتجاج في الجزائر