30-أكتوبر-2019

في شارع أودان بالعاصمة (رياض كرامدي/ أ.ف.ب)

غرقتُ مع صديقي السّائق في الحديث، وخُضنا في غير الطريق الذّي كنّا نبغيه. بل إنّنا وجدنا نفسينا عكس الاتّجاه تمامًا. ووجدنا صعوبة بالغة في تصحيح المسار لأنّ الطّريق كان يفتقد إلى منعرج قريب يمكّننا من ذلك. هل لاحظتم الوقت الذي يخسره السّائق الجزائري حين يُخطئ الطريق؟ لماذا لا نملك ثقافة المنعرج الذّي يجعلنا نتراجع عن المسار الخاطئ بسرعة ويسر؟

كان الرّئيس هوّاري بومدين يحمل شعار "الاشتراكيّة خيارٌ لا رجعة فيه" حتّى أصبح ذلك عقيدة لدى جيل كامل

خض أيّ طريق جزائريّ، سواءً داخل المدينة أو خارجها، بما في ذلك الطّريق السيّار الّذي يوصف بمشروع القرن، فإنّك ستجد نفسك ملزمًا بقطع مسافة طويلة، حتّى تتمكّن من العودة. هناك قال لي صاحبي عبارة تلخّص وضعنا: "لتينا بالهدرة ونسينا الطريق". أي اهتممنا بالكلام ونسينا المسار.

اقرأ/ي أيضًا: عبد القادر بن صالح.. رئيس مؤقت في حقل ألغام

لقد كبرنا نحن الجزائريّين على مدار سنوات الاستقلال الوطنيّ، حيث يستعدّ الطّفل الذّي، ولد عام 1962 لأن يقدّم ملفّ تقاعده، على شعارات مفخخة بعبارة/ عقلية (لا رجعة فيها). فكنّا نصاب بصدمتين معًا في كلّ مفصل. صدمة اكتشاف خطأ الخيار/ المسار، بسبب الغرق في الكلام، وصدمة الذّهاب إلى غيره، عادةً ما يكون نقيضًا له، من غير تحضير أو تدبير أو تفكير؛ فننقسم إلى شطرين سلبيين: شطر متحمّس للخيار الجديد على غير هدًى، وشطر وفيّ للخيار القديم على غير هدى أيضًا.

كان الرّئيس هوّاري بومدين يحمل شعار "الاشتراكيّة خيارٌ لا رجعة فيه". حتّى أصبح ذلك عقيدة لدى جيل كامل، هو جيل ما بعد ثورة التّحرير. لكن ما أن رحل نهاية عام 1978، حتّى راح خليفته الرّئيس الشّاذلي بن جديد يتّخذ سياسيات وقرارات مناقضة تمامًا للرّوح الاشتراكيّة، حتى صارت اللّيبراليّة عقيدة عند أجهزة الدّولة.

في بداية تسعينات القرن العشرين، كانت العقيدة القائمة لدى المؤسّسة العسكريّة هي معاداة الإسلاميّين، حتّى أنّها أوقفت المسار الانتخابيّ الذّي أفضى إلى فوزهم بالانتخابات البرلمانيّة، وزجّت بهم في السّجون، بما كان سببًا في اندلاع حرب أهليّة أدّت إلى موت وجرح واختفاء عشرات الآلاف، وها هي المؤسّسة نفسها اليوم تراهن على الخطاب الإسلاميّ في إقناع الشّارع بمقولاتها وسياساتها وخياراتها.

حصل ذلك وغيره، بعيدًا عن استشارة الخبراء والمثقّفين والمفكّرين والفاعلين الحقيقيّين في الميدان، بل إنّ تعسّفات طالت كل من عارض أو حاول مناقشة الخيارات الجديدة. وقد حدث أن تلميذًا جزائريًّا درس في مرحلة أنّ هذا الخيار مقدّس، ثمّ درس قبل أن يتخرّج أنّه مدنّس. كيف يكون تفكير هذا التّلميذ لاحقًا؟ كيف يؤمن بصدق ومصداقيّة النّظام الذّي سعى دومًا إلى إقناعه بأنّه هو الدّولة نفسها، علمًا أنّ هناك فرقًا بين الحكومة والدّولة؟ كيف يمكن إقناعه بأنّ العيش في الجزائر أفضل من العيش في غيرها من الدّول؟   

يؤسّس هذا المقام للصّراعات والنقاشات المغلوطة، ويكرّس العداء العام للنقاشات والرّهانات الحقيقية، بما يجعل المنشغلين بها والمشتغلين عليها في مهبّ التشويش والتشويه والطعن في وطنيتهم نفسِها. فكم من كفاءة وطنية ذهبت ضحيّة لدفاعها عن الخيارات والنقاشات السّليمة؟ بل إنّ وجوهًا كانوا ضمن النّواة الأولى لتفجير ثورة التّحرير التّي، أثمرت الاستقلال نفسه ماتت منفيّة أو مسجونة أو مغضوبًا عليها، فلم تحظ بخبر عن وافتها في وسائل الإعلام الحكوميّة، فقط لأنّها عارضت خيارات أو دافعت عن خيارات أخرى.

لنكن صرحاءَ مع أنفسنا ونعترف بأننا لم نعش عامًا واحدًا، منذ الاستقلال كنّا فيه سائرين برؤيةٍ واضحةٍ ومدروسة

لنكن صرحاءَ مع أنفسنا، فنعترف بأننا لم نعش عامًا واحدًا، منذ فجر الاستقلال على الأقلّ، كنّا فيه سائرين برؤيةٍ واضحةٍ ومدروسة، ومبرمجين على التفكير والعمل، لا على الكلام والكسل. وإنّ المصلح الحقيقيّ اليوم، في مجالات الثقافة والسّياسة والرّياضة والتّعليم والاقتصاد، ليس من يقترح الطريق، لأنّ طريقنا واضح، طريق الاستقلال والحرية والمواطنة، بل هو من يقترح المنعرج، الذي يمكّننا من أن نتراجع عن رصيدٍ أسودَ من الخيارات، التي أثمرها الخطأ في الطريق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

البرلمان ينصب بن صالح رئيسًا للجزائر والشعب يتمسك برفض "الباءات الثلاثة"

أول جمعة بدون بوتفليقة.. وعي الحراك الشعبي بمطالبه