أثار إعلان الزيادات في أجور الأساتذة بعد الموافقة على القانون الأساسي لعمال التربية اهتمامًا واسعًا بين الجزائريين، واحتلّ الموضوع صدارة النّقاشات على مواقع التواصل الاجتماعي. ومع ذلك، فقد أعرب الأساتذة عن استيائهم من الكشف عن قيمة رواتبهم الشّهرية، لأن هذا الأمر يُعدّ في نظرهم شأنًا شخصيًا يجب الحفاظ على خصوصيته.
الرواتب على الأقل في المؤسسات الحكومية تخضع لقوانين واضحة تسمح لأي شخص آخر استطاعة معرفة أجر أي موظف حكومي
ويعكِس هذا الموقف في جزء منه وِجهة نظر العديد من الجزائريين الذين يرون أنّ الإفصاح عن قيمة الرواتب الشهرية يُعد من المواضيع المسكوت عنها ويجب تجنّب الحديث عنها.
رغم أن التكنولوجيا تُتيح للجميع معرفة قيمة راتب أي موظّف في أي مكان بالعالم، إلا أنّ البعض يتفادى الإفصاح عن رواتبهم.
وتختلف الأسباب التي تدفعهم إلى ذلك من موظف لآخر، لكنها في الغالب تبدو غير مبرّرة، خاصة أن الرواتب في المؤسسات الحكومية تخضع لقوانين شفافة تسمح لأي شخص الاطلاع على أجر الموظفين في القطاع العمومي.
ضجة
منذ أسبوعين، وبعد مصادقة الحكومة على القانون الأساسي، لا يزال الحديث عن الزيادات المترتبة على هذا القرار يشغل الجزائريين. فقد شهدت رواتب الأساتذة زيادة كبيرة، حيث تجاوزت في بعض الحالات حتى 100 ألف دينار جزائري، لذوي الخبرة، وهو مبلغ يفوق ما يتقاضاه بعض موظفي قطاع الوظيف العمومي. وقد أثار نشر هذه الزيادات على الإنترنت نقاشًا واسعًا وأصبح الموضوع حديث الجميع.
وقال أستاذ العلوم الفيزيائية في المرحلة الثانوية، عادل ثابت، إنّ "ما تم نشره على مواقع التواصل الاجتماعي يعكس راتب أستاذ قضى عمره في التدريس، ما يعني أنه عانى من العديد من الأمراض المزمنة بعد 18 سنة من الخدمة الفعلية، علاوة إلى منحة المردودية التي أضيفت لتجميل الأرقام أمام القارئ العادي الذي قد لا يهتم بالتفاصيل".
وأضاف: "أصبح الآن الأستاذ موضِع حسد، فماذا لا يتم معالجة زيادات رواتب قطاعات أخرى؟ أم أن الأستاذ هو المستهدف؟ لماذا لم يتم نشر راتب أستاذ مبتدئ، أم أنّ الزيادة التي حصل عليها كانت متواضعة؟"
الباحث في علم الاجتماع، توفيق عبيدي: ردة الفعل هذه المرة كانت غير عادية ومبالغ فيها خاصة أن التذمر من كشف الزيادات كان بشكل واضح وحاد، وبالخصوص على وسائل التواصل الاجتماعي
ويرى عادل ثابت أنّ نشر مقدار الرواتب التي سيتلقاها الأساتذة بعد الزيادات المنتظرة يندرج ضمنت خانة "التّشهير"، معتبرا أن " التشهير برواتب الأساتذة يعتبر إهانة، وكأن الأستاذ هو الموظّف الوحيد الذي يتقاضى راتبًا".
ويرى الباحث في علم الاجتماع، توفيق عبيدي أن "ردة الفعل هذه المرة كانت غير عادية ومبالغ فيها خاصة أن التذمر من كشف الزيادات كان بشكل واضح وحاد، وبالخصوص على وسائل التواصل الاجتماعي"، وفق ما قاله لـ"الترا جزائر"
وأضاف عبيدي: "لكن هذا الاستهجان كان متوقعًا بسبب عدة عوامل. فالبعض يرى أن الإعلان عن الزيادة يمكن أن يثير مشاعر الاستياء أو الغضب لدى موظفي القطاعات الأخرى الذين قد يشعرون أنهم محرومون من زيادات وامتيازات مماثلة".
وأضاف بأنّ "هناك من يعتقد أن نشر هذه المعلومات قد يؤدي إلى تفاوت بين الفئات الوظيفية المختلفة أو يساهم في تأجيج النقاشات حول الفروق في الرواتب.
وعلاوة على ذلك، يعتقد البعض أنّ "مثل هذه الأخبار يجب أن تُناقش في إطار داخلي فقط، دون الحاجة للإعلان عنها علنًا، خصوصًا إذا كانت الزيادة غير متساوية أو لم تشمل فئات أخرى في مختلف المهن والقطاعات".
ظاهرة مجتمعية
في الواقع، فإنّ رفض الأساتذة الكشف عن رواتبهم لا يختلف عن موقف باقي الجزائريين في المهن الأخرى.وعلّق رئيس النقابة الوطنية للصحة العمومية، إلياس مرابط، على تغطية الإعلام لهذه الزيادات في الأجور قائلاً بأنّها "التصرفات ذاتها، وكأن موظفي قطاعات التربية والصحة فقط من يتقاضون أجورًا. لماذا لا يُسلط الضوء على باقي القطاعات في الوظيف العمومي مثل العدالة، والاقتصاد وغيرها من القطاعات؟ يجب أن نُعطي المواطن والمسؤول صورة أشمل عن واقع وهرمية كتلة الأجور في بلادنا".
شهدت الجزائر في مرات عدة نقاشات حول أجور فئة معينة من الموظفين أو العاملين
وشهدت الجزائر في مرات عدّة نقاشات حول أجور فئة معينة من الموظفين أو العاملين، فقضية أجور نواب البرلمان تبقى إلى اليوم مجل شد وجذب بين من يتقبل الرواتب التي يتقاضونها ومطالبتهم برفعها لتمكين البرلماني من القيام بالمهمة الموكلة له، فيما يرى كثير من الجزائريين أن هذه الرواتب مضخمة بما أن مهمة البرلماني عندهم لا تتعدى رفع الأيدي وإنزالهم للموافقة على تمرير قوانين الحكومة.
ورغم أن أجور الرياضيين وبالخصوص لاعبي كرة القدم خيالية في معظم دول العالم، ولا تخضع لمعايير موضحة يمكن تبريرها، إلا أنّ الجدل في الجزائر بشأن أجور اللاعبين بعود عن كل فترة انتقالات، بل إن الوزارة تحاول اليوم تسقيف رواتب اللاعبين تحت مبررات مختلفة.
ويتكتم كثير من الجزائريين عن قيمة رواتبهم في معظم القطاعات مهما كانت مستوياتهم الثقافية، بالنظر إلى أنهم يعتبرون أن "موضوع الراتب مسألة شخصية ويجب الحفاظ على خصوصيتها، وهنا من الطبيعي يفضل الموظف عدم مناقشة تفاصيله المالية مع الآخرين"، حسب ما أوضحه لـ"الترا جزائر" توفيق عبيدي.
التكتم عن قيمة الراتب لدى الجزائري مردّه -حسب أستاذ علم الاجتماع- إلى "الخوف من الوصمة الاجتماعية، ففي بعض الأحيان قد يؤدي الحديث عن الراتب إلى مقارنات اجتماعية بين الأفراد مما يسبّب الشعور بالإحراج أو الضغط، ويمكن أن يترتب على ذلك مشاعر بالغيرة والحسد وبروز تنافس سلبي بين الموظفين في قطاعات مختلفة".
وتابع عبيدي قائلاً أن "الفوارق الاقتصادية واختلاف الدخل بين الأشخاص والمهن قد يؤدي إلى زيادة الإحساس بالفروق الطبقية والقلق من التمييز، فالبعض يخشى أن يؤدي الكشف عن الرواتب إلى التمييز في أماكن العمل أو قد يستخدم ضدهم في مواقف معنية".
أشار عبيدي إلى أنّ قيمة الراتب قد تعكس مكانة معينة في المجتمع، وهي إحدى أبرز الأسباب التي تدفع الأشخاص إلى التكتم بشأنه. ففي الجزائر، على سبيل المثال، يعتبر الراتب مقياسًا غير رسمي للمكانة الاجتماعية، وقد يؤدي إلى تصنيفات مختلفة.
لذلك، يظهر نوع من الحساسية تجاه الكشف عن الرواتب، لتجنب المقارنات التي قد تؤثر على صورة الشخص أو مكانته في نظر الآخرين.
فالراتب المرتفع قد يُعرِّض صاحبه للانتقادات أو للغيرة والحسد، بينما قد يؤدي الكشف عن الراتب المنخفض إلى الشعور بالخجل أو التقليل من شأنه.ولهذا يُصبح التكتّم عن الراتب وسيلة للحفاظ على الانسجام الاجتماعي وحماية الفرد من الضغوطات التي يفرضها المجتمع".
مكانة اجتماعية
على عكس ما هو موجود في الجزائر، فيمكن اليوم في كثير من الدول معرفة مرتب أي موظف مهما كان منصبه في المؤسسة التي يشتغل فيها، بل إنّ إعلانات التوظيف تتضمن في الأصل قيمة الراتب الذي سيحصل عليه المترشحون للعمل في حال تم قبولهم، من باب أن ذلك يعد محفزا لاستقطاب أحسن الكفاءات وأمهر العاملين والمتخرجين.
ويرجع الباحث في علم الاجتماع توفيق عبيدي عدم وجود هذه الخاصية بالشكل الكبير في الجزائر إلى تفكير أصحاب المؤسسات في الجزائر التي تشجع هي الأخرى على إبقاء راتب العامل ضمن خانة "سري للغاية".
عبيدي: قيمة الراتب قد تعكس مكانة معينة في المجتمع، وهي إحدى أبرز الأسباب التي تدفع الأشخاص إلى التكتم بشأنه. ففي الجزائر، على سبيل المثال، يعتبر الراتب مقياسًا غير رسمي للمكانة الاجتماعية
في هذا السياق قال عبيدي: "تُعتبر مؤسساتنا أن تفاصيل الرواتب والعلاوات من الأمور الخاصة والأسرار المؤسسية، وأنها معلومات حساسة وشخصية لا ينبغي الإعلان عنها علنًا، وذلك لتجنب المقارنات في الأجور وتقليل التوترات الاجتماعية. فقد يؤدي الكشف عن الرواتب إلى إثارة مشاعر التفرقة أو الغضب بين الموظفين، خاصة إذا كانت هناك فروقات كبيرة في الأجور، مما قد يفتح باب النقاش حول العدالة والمساواة. لذلك، تُفضّل هذه المؤسسات الحفاظ على سرية الرواتب والزيادات لتفادي الضغوطات أو المطالب من جهات أخرى".