06-أكتوبر-2022

الجزائر تسجّل أكثر من40 ألف حالة ولادة خارج إطار الزواج سنويًا (تصوير: فاروق باتيش/أ.ف.ب)

يبحث عشرات من مجهولي النسب عن ذويهم لسنوات طويلة، ويظل السؤال الذي يشغلهم من أنا ومن أين أتيت؟ أطفال كانوا بالأمس وأصبحوا اليوم كِبارًا، عالقون في رحلة البحث عن اللقب وعن هويتهم، فبين رفض بعض الأمهات والآباء الاعتراف بأبنائهم، وتخوّف بعض الأسر الكفيلة من فتح نافذة الحقيقة ومحاول طيّ المِلف المسكوت عنه في الجزائر، يرغب كثيرون في عدم الاستسلام للواقع بغية إشباع رغبة التعرّف على هويتهم الحقيقية، في زحمة الإجراءات الإدارية وظروف المجتمع.

صدمة قوية عاشتها سهام أول مرة ولم تصدّق ما عثرت عليه بين كومة الأوراق حتّى كشفت لها جدّتها من عائلتها بالتبني أنها طفلة مجهولة النّسب

وضعت سهام. ب (20سنة) من خِلال تدوينة في صفحة على موقع فيسبوك إعلانًا للبحث عن والدتها التي لا تعرِفها، قائلة إنّها ولدت في مستشفى بمنطقة الرويبة شرق العاصمة الجزائرية، كما ذكرت اسم الطبيبة التي وقفت على عملية الولادة فيما غادرت والدتها المستشفى بعد أسبوع من الوضع متخلية عنها بصفة نهائية.

رغم مرور السنوات لم تتوقّف سهام عن البحث عن والديها والتحري عن حقيقتها، منذ أن اكتشفت تلك الحقيقة، إذ تطالب برؤية والدتها كما تستجديها لقبول الكشف عن هوية من أنجبها في حين ترفض العائلة التي تكفّلت بها منذ طفولتها هذه الفِكرة من الأساس.

تقول سهام في حديث إلى "الترا جزائر" إن "المسألة نفسية وعلاقة روحية بمن حملتني وأنجبتني ثمّ وتركتني، أريد أن أعرف من أنا؟ ولماذا جرى معي ذلك؟، أريد أن أعرف الحقيقة وفقط".

جرح كبير غائر في قلب هذه الطّفلة التي أصبحت شابة ولكنها لازالت تعود للبدايات الأولى لحياتها، إذ لم تتخلّ عن حلُمها فكيف عليها أن تصدّ وجهها عن تلك الحقيقة؟ 

تقرّ المتحدثة بصعوبة رحلة البحث عن اللقب، في علاقة مع الأسرة التي كفلتها وهي صغيرة، إذ اكتشفت قصّتها في اليوم الذي باشرت إجراءات التّسجيل في الجامعة بعد نجاحها في الباكالوريا، فلم تشعُر يوما أنها بنت مكفُولة في العائلة التي عاشت فيها منذ أن كان عمرها عامين، واقتنعت باللقب الممنوح لها في سنواتها الأولى في المدرسة ثم الثانوية ولكن بعد وعي النجاح وغبطة الفوز بشهادة عليا تحركت فيها مشاعر البحث عن تكوينها الأول.

صدمة قوية عاشتها سهام أول مرة، إذ لم تصدّق ما عثرت عليه بين كومة الأوراق، حتّى كشفت لها جدّتها "غير الحقيقية" أنّها طِفلة مجهولة النّسب، وتحمِل فقط (وثيقة بنت مكفولة لعائلة فلان)، أما الاسم الذي التصق بها منذ الولادة هو ما تمّ تقديمه لها حتى تعيش في مركز لحضانة الأطفال دون لقب.

إنه الحنين، أو الغصة أو ماذا؟ يردّ البعض بـالقول: "الدمّ إلا ما حنش يكنْدر"، وهو واحد من الأمثال الشّعبية التي تصف قرابة الدمّ ومعناه أنّ "الدم إذا لم يحنّ لذويه يتجمّد أي يموت"، ولهذا وجد الكثيرون ضالتهم في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي للبحث عن ذويهم وخاصة أمهاتهم البيولوجية، وهو ما وصفه البعض بــ" عودة حياة القلب".

جُذُور

يحضُر اللّقب العائلي، دائما قبل الاسم في الجزائر، خُصُوصًا في الوثائق الرسمية الخاصة بالدّراسة، غير أن الذي تغيّر مع مرور السنوات بات الاسم يسبِق اللّقب في حالات عديدة، لكن سيطرت العادة الاجتماعية على أغلب التّعاملات في المخيال الشّعبي الجزائري، يقال بنت فلان أي اسم عائلتها، إذ هو الخلفية وهوية وتاريخ وماضي أي شخص، وخاصة بالنسبة للأنثى فغالبًا ما تتوارى الأسماء وراء الألقاب العائلية وحتى العرش والقبيلة.

بينما يعتبر اللقب لدى الآلاف "نقمة ونكبة في الوقت نفسه"، إذ أشارت أستاذة علم النفس بجامعة الشلف غرب العاصمة الجزائرية الدكتورة آمال لعرابي أن الطفل يولد دون تاريخ يذكُره، وبعد البلوغ تتهاطل عليه الأسئلة، وحتى في محيطه إذ غالبًا ما يطرح السؤال التالي:" من هم أقاربي؟

وأضافت لـ"الترا جزائر" أن "اللقب يسبّب للطفل مشكلات نفسية واجتماعية لا حصر لها، خصوصًا عندما يدرِك مدى اختلافه عن بعض أفراد العائلة التي تكفّلت به".

كما يصعُب على الفَرد التكيُّف الاجتماعي مع هذه المشكلات، موضّحة أن الكثيرين يصابون بعدم الكفاية الاجتماعية وعدم قدرتهم على بناء علاقات اجتماعية ناجحة مع الآخرين وعلى تحقيق القبول المرغوب فيه"، لافتة إلى وصول البعض إلى الشعور بما يسمى بـ"الشخص المنبوذ اجتماعيًا"،وذلك راجع إلى ولادته في ظروف غامضة ويتعذر عليه معرفة إلى من ينتسب، فتتشكّل لديه عقدة لا تنفكّ إلا بوصوله إلى الحقيقة.

وبخصوص الباحثين عن النسب فهي مسائل قد تطول فترة علاجها بسبب تعقيد الظروف الاجتماعية وطرق التعرّف على الأب بالدرجة الأولى والمشكلات المتوقع حدوثها، بينما الأم يمكن الكشف عن هويتها من خلال وثائق المستشفى.

وبدرجة أكثر صعوبة، تبقى المرحلة الأصعب في اكتشاف هوية أي شخص عندما تنجب الأم بعيدًا عن الأطر الطبية، وهو ما يجعل عملية تحضير الأوراق والإدارات الرسمية لعلاقتها بالنّسب وما يترتب عن ذلك من المصاعب التي لا يتمكن البعض من العثور عليها".

أروقة القضاء

في المحاكم، تنتظر عدة ملفّات البتّ في قضايا رفعها البعض عن إثبات النّسب، خصوصًا وأن هذا الملفّ حساس ويجلب التعاطف، في وقت يظلّ من الطابوهات، إذ تشبه قصة حليمة عشرات القصص التي لا تُحكى في العلن، بل أقصى ما يمكِن فعله من طرف البعض هو التطرّق لها تحت أسماء مستعارة.

تعتبر المحامية بمحكمة قسنطينة شرق الجزائر الأستاذة هدى بلكربي الملف بالمعقّد، حيث يتكشّف من وراءه العديد من القصص لأشخاص يبحثون عن أهاليهم في المقابل الكثيرون يتناسوا أبناءهم مع ظروف الحياة ومع ما يوسم بـ"العار الاجتماعي" ما يشكل عبئًا كبيرًا على المعني بالأمر وعلى العائلة التي كفلته".

وأشارت المحامية بلكربي لـ"الترا جزائر"، أن القانون الجزائري أقرّ الكفالة القضائية بحسب قانون الأسرة، كما يمكن كشف النسب في حدّ ذاته بقرار من المحكمة، ويتم عبر المحاكم وليس عبر اتصالات بين أطراف والتأليف فيما بينهم.

كما لفتت إلى أن القوانين توفِّر ما يسمى بـ"الرّعاية البديلة" عبر مؤسّسات الطفولة المسعفة القانونية التي   تتسلم الطفل الذي تخلّت عنه أمه من مصالح المستشفى، أو الشرطة القضائية التي تقوم بتحويل طفل في خطر على قاضي الأحداث كإجراء وِقائي مُستعجل، وهناك يمكن العُثُور على مختلف المعلومات المتعلِّقة بهذه الفئة.

وتضمّن هذه المؤسّسات الحماية للمحرومين من عائلاتهم، كما قالت نبيلة ملياني المرشدة الاجتماعية بمركز الطفولة المسعفة بولاية (باتنة) شرق الجزائر، وتضمن لهم وثيقة ميلاد أصلية مستخرجة من سجلات الحالة المدنية، غير أن مشكلة هذه المراكز هي أنها تتكفل بالأطفال إلى غاية بلوغهم سن 18 سنة، وهي مشكلة أخرى تواجههم بعد ذلك.

كما تُعتبر مسألة احتضان الطفل من قِبَل أسرة كافلة تضمن له السّند العائلي، متشابكة الشّروط، إذ يتعيّن على الأم التنازل الصريح عن طفلها حسب ملياني في حديثها لـ" الترا جزائر"، وذلك من خلال إمضاء محضر التخلّي الذي يمكن أن يتخذ شكلين محضر تخلّي نهائي أو محضر تخلي مؤقّت، ويتمّ إبلاغ الأم بأن المحضر الأول يسمح بوضع الطّفل مباشرة في أسرة بديلة، بينما الثّاني فيمنح لها مدة شهر للتفكير قابلة للتجديد لمدة شهرين وبانقضاء هذه المدة يمكن وضع الطفل في أسرة بديلة وبقرار التخلي يفقد الأم كل الحقوق والروابط التي تربطها بفلذة كبدها.

أول حلقة وآخرها

في وقت الذي كشفت فيه الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان أن الجزائر تحصي أكثر 40 ألف حالة ولادة خارج إطار الزواج سنويًا، تظهر مفارقة كبرى في مسألة الباحثين عن هويتهم الحقيقية وألقابهم، إذ يعتبر مكتب المتخلي عنهم بالمستشفيات الجزائرية أول حلقة يمكنها أن توصلهم للحقيقة.

يتلقّى القائمون على هذه الإدارة مختلف البيانات الأساسية للأم التي تخلت عن وليدها كالاسم واللقب ومستواها التّعليمي وحالتها الاجتماعية وبطاقة هويتها، وبعض المعلومات عن الأب إن وجدت، ثمّ يتم توثيقها في محضر التخلي، وتوقّع عليه الأمّ وإرفاقه في ملفّ إداري يتكون من نسخة من محضر التخلّي وأخرى من عقد ميلاد الطفل ونسخة ثالثة من بطاقة التعريف الوطنية للأم، فضلًا عن بطاقة الحالة الصحي للطفل وصورتين شمسيتين له، من أجل إرساله إلى مديرية الشؤون الاجتماعية.

ومن هذا المنطلق، يعتبر هذا المكان أيضًا الحَلقة الأخيرة، في رحلة البحث عن الوالدين والعثور عليهم، ما يجعلها ممكنة ومُضنية في آن واحد، تتطلّب الكثير من الجهد والوقت، خصوصًا إن تعلّق الأمر بملفات إدارية سرّية، يراد لها أن تحفظ حقوق أطراف عدّة، غير أنها أهمّ خيط يوصل الطفل التخلّى عنه إلى منبع تكوينه في الحياة.

الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان كشفت أن الجزائر تحصي أكثر 40 ألف حالة ولادة خارج إطار الزواج سنويًا

ولفتت المرشدة الاجتماعية إلى أن هذه الفئة ينتظرها "رفض اجتماعي وتكلُفة غالية" وهو ما يدفع البعض إلى العيش على الجمر وحرقة إيجاد إجابة عن أسئلة: "من أنا ومن أين جئت وأين أمي وأبي؟ ".