17-ديسمبر-2019

سهيل الخالدي (الصورة: المحور اليومي)

انطفأت للأبد، شمعة الكاتب والإعلامي الجزائري سهيل زرقين، المعروف بسهيل الخالدي عن عمر ناهز 78 سنة، بعد معاناته مع المرض. ذهب العمّ سهيل وترك قريته واد البردي بولاية البويرة في حزنها، بعد أن عاش ظروفًا صعبة في سنواته الأخيرة، إذ لم يعش أجواء فرحته طويلًا بعد حصوله على مسكن اجتماعي يستر عائلته من الحرّ والقرّ، بعد أن عاش مشرّدًا لعدّة سنوات بلا مأوى.

سهيل الخالدي من مواليد 1942 بقرية سمخ الفلسطينية من أسرة جزائرية مهاجرة

بين المشرق والمغرب

سهيل الخالدي من مواليد 1942 بقرية سمخ الفلسطينية، من أسرة جزائرية مهاجرة، تلقى تعليمه بالأردن التي هجر إليها في عمر السادسة واشتغل في الصحافة العربية في الأردن، والجزائر والعراق والكويت، وقد شاءت الأقدار أن يعيش الخالدي في عدّة دول عربية، حيث روى واصفًا نفسه: " قال ديبلوماسي عربي مثقف ذات يوم إن سهيل الخالدي نموذَج للوحدة العربية، فهو يفطر في المشرق ويتعشى في المغرب. ولكني أرى نفسي نموذجًا للإنسان العربي المغبون، فالعرب موحدون في خيبتهم، فقد هاجر أجدادي في القرن التاسع عشر من قرية سيدي خالد بوادي البردي في الجزائر إلى بلدة سمخ على ضفاف بحيرة طبرية في فلسطين، وقبل أن ينتصف القرن العشرون وقبل سن السادسة وجدتني مهاجرًا إلى الأردن".

اقرأ/ي أيضًا: فلسطين والجزائر.. حب على بعد آلاف الكيلومترات

لقد أمكن اعتبار الإعلامي الموسوعي سهيل الخالدي شاهدًا على كل شيء حدث في القطر العربي، فقد كان عينًا رصدت حرب 1967 بين العرب والصهاينة، وكان شاهد عيان على العشرية السوداء في الجزائر، وأنهار الدم التي كادت تودي بالشعب الجزائري، وفي عام 2011 كان في دمشق إبان انطلاق الثورة السورية، وشاهد بأم عينيه جوهرة الشام وهي تستحيل رمادًا، ليعود بعد ذلك إلى الجزائر غريبًا وهو بين أهله وقد بلغ السبعين من العمر. يقول سهيل الخالدي في إحدى الحوارات: "بلغت السبعين، ولا أملك في هذا الوطن المُمتد من الماء إلى الماء مساحة قبر".

ديشوم.. قرية جزائرية في فلسطين

"أنا صلاح، فلسطيني أقيم بمخيّم برج الشمالي، لكنني أعلم أن جدّي جزائري قدم من منطقة القبائل عام 1830، مع عدة عائلات توزّعت في الشام، واختار هو الاستقرار هنا، في قرية ديشوم بفلسطين". هذه الكلمات التي نطقها العم صالح بقبائلية تكتسيها لكنة مشرقية كانت بداية الفيلم القصير "صالح..قبائلي في فلسطين"، للمخرج الجزائري طاهر حوشي.

في مدّة 13 دقيقة، يروي الفيلم قصّة مواطن فلسطيني في قرية ديشوم. هذه القرية التي تسكنها عديد العائلات ذات الأصل الجزائري، فرّ أجدادها إلى المشرق هربًا من طغيان الاحتلال الفرنسي، فاستقر بعضها في لبنان وبعضها في سوريا، فيما وصلت عائلات إلى داخل التراب الفلسطيني. قصص إنسانية تضاف لعديد قصص الجزائريين المهجّرين والمنفيين خارج الحدود إبّان حقبة الاحتلال.

مراسم دفن الكاتب سهيل الخالدي

في بداية الفيلم، ينطق صالح أو "أبو هشام" كما يلقّب، ببعض الكلمات القبائلية، حيث يقول إنني أعلم أنّ جدي جزائري قدم من منطقة القبائل واستقر هنا، ثم يحكي عن قصّته الكاملة وقصص مشابهة لعائلات تحمل أصولًا جزائرية ذابت داخل المجتمع الفلسطيني بعد مرور أزيد من قرن ونصف. قصص تجمع بين المعاناة والحنين، لاكتشاف هذا الجزء الخفيّ من هويتهم، في أرض قدموا إليها من أرض تشبهها تمامًا.

يعيش العم صالح داخل مخيم برج الشمالي منذ سنوات، أين يخوض تجربة النفي والحرمان بشكلٍ مضاعف، تلك الكلمات القبائلية التي لا يزال يحتفظ بها في ذاكرته هي جزءٌ من موروث عائلي يكاد يزول. يحلم العم صالح بزيارة الجزائر وقرية جدّه التي يرجح أنها من الأربعاء ناث إيراثن، حيث شهدت موجة تهجير قسري منذ عام 1830. يقول العم صالح إنّ هذه الزيارة حلمٌ يريد تحقيقه قبل أن يتوفّاه الأجل. يُمعن النظر كل صباح في شجرة الزيتون التي غرسها في فلسطين، متمنيًا أن يعانق ذات يوم شجرة الزيتون التي غرسها أجداده في الجزائر.

هجرة أبدية

هذه القصّة هي واحدة من آلاف القصص لعائلات جزائرية نفيت إلى الشام بعد مشاركتها في المقاومات الشعبية التي اندلعت في الكثير من المناطق الجزائرية، إذ هُجّر الكثيرون بعد ثورة الأمير عبد القادر، والمقراني، والزعاطشة، ومقاومة فاطمة نسومر، تهجيرًا قسريًا إلى مناطق بعيدة، استقرّت بعض العائلات في سوريا ولبنان، بينما اختارت أخرى منطقة صفد في فلسطين، قبل أن يتم تهجيرها إلى مناطق أخرى على يد الاستعمار الصهيوني، وكأنّ قدر التهجير يلاحقها أينما ذهبت.

يقول الباحث عبد الله صلاح مغربي في كتابه "من جرجرة إلى الكرمل"، إن وجهة المهاجرين الجزائريين في بادئ الأمر كانت مدينة دمشق، ومنها كانوا يتوزّعون في قرى ولاية دمشق، ومن ثم بدأ المهاجرون ينتشرون في مناطق موانئ الوصول مثل يافا وعكا وبيروت، وكان لفلسطين حصّة الأسد في الانتشار الجزائري بعد سوريا، فأقاموا في مدينة صفد وسكن أغلبهم في حارة الأكراد، وأقاموا في طبرية حيث أسّسوا خمس قرى جزائرية في تلك المنطقة، وكذلك نزلوا في حيفا وقراها المحيطة، كما انتشر المهاجرون الجزائريون في الجليل وعكا ويافا والقدس، لكن أكبر تجمّع لهم استقرّ في قرى الجليل الأعلى.

قاومت العائلات الجزائرية الاحتلال الصهيوني يدًا بيد مع العائلات الفلسطينية دفاعًا عن أرضها

قاومت العائلات الجزائرية الاحتلال الصهيوني يدًا بيد مع العائلات الفلسطينية دفاعًا عن أرضها، كما ساهمت في جمع الأموال لفائدة جيش جبهة التحرير الوطني أثناء الثورة. تفرّقت العائلات في مناطق مختلفة داخل التراب الفلسطيني، بينما عاد بعضها إلى لبنان، وهو ما يجعلها لا تبدو كجالية واضحة المعالم بل كشتات أخفته نوائب الزمن.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الكأس في الجزائر والفرح في فلسطين

لقاء فلسطين والجزائر.. المستطيل الأخضر للمقاومين