02-نوفمبر-2020

الباحث علي الكنز (فيسبوك/الترا جزائر)

كان المفكّر والباحث في علم الاجتماع علي الكنز (1946 - 2020) نموذجًا للمثقّف الجزائريّ الذّي ولد وعاش بدايات تشكّل وعيه الإنسانيّ والمعرفيّ، في ظلّ حركة وطنيّة كانت في عزّ تمهيدها لثورة التّحرير، التّي شكّلت انقلابًا حقيقيًّا في الواقع والمخيال والوجدان الجماعيّين، ثمّ بدايات الاستقلال الوطنيّ الذّي شكّل تحدّيًا للذّات الوطنيّة الجزائريّة، فاختار الفلسفة ومن خلالها علمَ الاجتماع لمساعدة هذه الذّات على فهم سياقاتها الحضاريّة المختلفة، لأجل أن تربح تحدّي الاستقلال.

استطاع علي الكنز أن يلتقط بأدوات علم الاجتماع اللّصيق باللّحظة الشّعبيّة جملة من التّحوّلات التّي عرفها الشّارع الجزائري

كانت قناعة علي الكنز كبيرةً بالتّركيز على التّصنيع وجعله محور التّحديث الذّي تقوم عليه الجزائر المستقلّة، فكان من الأوائل الذّين تخصّصوا في علم الاجتماع الصّناعيّ وباشروا الكتابة فيه ووضع الأسس له.

اقرأ/ي أيضًا: سؤال الحداثة بين الرّؤية الغربية والتلقّي العربي في الجزائر

غير أنّ "المنظومة البومدينيّة" كانت تقوم على أحادية الرّأي والرّؤية؛ وترى في تثقيف المسعى وتعميق طروحاته خطرًا على طروحاتها، فخلقت أشواكًا كثيرة في طريق ذلك الجيل من الباحثين المسلّحين بأدوات المعرفة والتّفكير، ممّا اضطرّ علي الكنز إلى إصدار كتابه "الاقتصاد الجزائري" في الخارج باسم مستعار هو الطّاهر بن حوريّة. ولهذا الاسم دلالته في ذلك السّياق.

برحيل الرّئيس هوّاري بومدين نهاية العقد السّابع من القرن العشرين، أي بعد أقلّ من عقدين من الاستقلال الوطنيّ، وجدت الجزائر نفسها مدعوّة من طرف نظام الشّاذلي بن جديد إلى نمط اقتصاديّ مختلف، وفق نظرة غير مدروسة؛ ممّا استفزّ قلم علي الكنز، فنشر كتابه "حول الأزمة" المتكوّن من بحوث ودراسات كان قد نشرها في منابر مختلفة.

لم تكن تلك المداخلات سوى نواقيسَ دقّها الكنز الذّي كان مهووسًا، رفقة باحثين آخرين، بالتّمكين لمدرسة جزائريّة في علم الاجتماع، قصد التّنبيه إلى جملة الانزالاقات التّي كانت اللّحظة الجزائريّة مقبلة عليها، بفعل إرث بومديينيّ منغلق على غير بصيرة وخيارات جديدة على غير دراسة، فكان الكتاب في حكم البيان الذّي شكّل أرضيّة معرفيّة لفهم واقع وتطلّعات الاقتصاد الجزائريّ.

استطاع علي الكنز أن يلتقط بأدوات علم الاجتماع اللّصيق باللّحظة الشّعبيّة جملة من التّحوّلات التّي عرفها الشّارع الجزائري، بعد عقدين من الاستقلال، وعزم على أن يكون قريبًا منها، من خلال اللّغة باعتبارها أداةً للفهم، فانتقل إلى مصر لأجل تعلّم اللّغة العربيّة ورصدٍ أكثرَ لموروثات الثّقافة والحضارة العربيّتين، فشكّلت تلك التّجربة نقلةً واضحة في مساره الفكريّ. حيث ساهم عربيًّا في تأسيس الجمعيّة العربيّة لعلم الاجتماع وجزائريًّا في تأسيس الجمعيّة الثّقافيّة الجاحظيّة التيّ رأسها صديقه الرّوائيّ الطّاهر وطّار، وشكّلت لحظة تأسيسها محاولةً فارقةً لجمع كلمة المثقّفين الجزائريّين معرّبين ومفرنسين.

تجاوز علي الكنز بحسّه الثّقافيّ والوطنيّ فخّ اللّغة وما ترتّب عنه من تشرذم وصراعات بين النّخب الجزائريّة، وراح يركّز على الجوهر المعرفيّ القادر على رفد اللّحظة الوطنيّة بما تحتاجه من مقولات تنسجم مع تحوّلاتها وتحدّياتها، فبات وجيهًا لدى الطّرفين.  

وكان إشرافه على سلسلة "الأنيس" ذا جدوى كبيرةٍ في تشكيل وعيٍ معرفيٍّ وحضاريٍّ في مشهد جزائري غارق في تجربة عنف وإرهاب طالع باسم الهوّية، ذلك أنّ السّلسلة استدعت نصوصًا مركزيّة عربيّةً وإنسانيّةً مشفوعةً بمقدّمات وضعها باحثون ومفكّرون وجامعيّون كان هو واحدًا منهم.

جعل هذا المسعى الفكريّ المضادّ لمسعى الجماعات المسلّحة، علي الكنز في مهبّ التّهديد الفعليّ، وهو التّهديد الذّي مسّ فعليًّا نخبة وازنة منها الجيلالي اليابس وعبد القادر علّولة وعزّ الدّين مجّوبي والشّاب حسني وبختي بن عودة وأبو بكر بلقايد، فوجد نفسه مضطرًّا إلى الهجرة إلى فرنسا ثم تونس ثم العودة إلى فرنسا مرّة أخرى ليكون أستاذًا في جامعاتها.

يتحدّث الكاتب والباحث قلّولي بن سعد عن كتاب علي الكنز "خمس دراسات حول الجزائر والعالم العربيّ"؛ فيقول إنّه يتناول ظاهرة ذيليّة المثقّف وتبعيته للسّياسيّ، رابطًا هذه الهامشيّة بأصولها التّاريخيّة وبالضّبط إلى لحظة تشكّل الوعي الوطني المقاوم للكولونياليّة الفرنسيّة، التّي تخلّف فيها المثقّفون عن الالتحاق بصفوف الحركة الوطنيّة أو التحقوا متأخّرين جدًّا.

 "سجّل علي الكنز أنّ الحركة الوطنيّة عمليًّا نشأت وترعرعت من دون مشاركة المثقّفين. وبعد التحاقهم بها لم يتمكّنوا من التّأثير فيها لا من حيث المحتوى ولا من حيث التّطوّر، فأصبحوا عبارة عن بيادق بين أيدي رجال الحركة الوطنية الرّافضين لقواعد اللّعبة".

ويتدارك محدّث "الترا جزائر" بالقول: "بالطّبع لا يقلّل علي الكنز من الأدوار النّضاليّة لبعض الوجوه على غرار فرحات عبّاس وعبّان رمضان ومصطفى الأشرف والدّكتور لمين دباغين الذّي يعتبره المؤرّخ الجزائريّ محفوظ قدّاش منظّر حزب الشّعب".

وربّما لم يتسنَّ لعلي الكنز؛ يقول قلّولي بن سعد، أن يدرس ويحلّل مآلات هذه الذّيليّة، عندما تكون بين المثقّف وزميله المثقّف، فتأخذ ألوانًا مختلفة من التّبعيّة المذلّة الأشبه بما سماه إيتيان دي لا بويسيه "العبودية المختارة".

يضع رحيل علي الكنز الباحثين أمام سؤال كبير هو: أين أنتم من اعتمالات اللّحظة الجزائريّة القائمة؟

"وهي عبوديّة أكثر خطرًا لكون المتبوع سيعتمد فيها على ما يسمّيه أحد نقّاد ما بعد الكولونياليّة وهو محمّد عبد الله  عبد العال أحمد  (بطبقة الوكلاء) للمحافظة على امتيازاتها الرّمزيّة والسّلطويّة عن طريق الهيمنة بالوكالة". ويضع رحيل واحد من آباء علم الاجتماع في الجزائر، الباحثين في هذا العلم من الجيل الجديد أمام سؤال كبير هو: أين أنتم من اعتمالات اللّحظة الجزائريّة القائمة؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

في ذكرى اغتياله الـ 22.. من قتل معطوب الوناس؟

فيلم عن حياة معطوب الوناس بتمويل أجنبي قريبًا