28-مايو-2020

يوسف بلمهدي, وزير الشؤون الدينية والأوقاف (الصورة: فيسبوك/الترا جزائر)

أحيّيك بما أنت أهل له وبعد

عرفناك أستاذًا في العلوم الشّرعيّة، وفارسًا في الدّعوة، وخطيبًا بالحكمة، ومصلحًا بين الناس، حتى غدوتَ في عيونهم ومن أعيانهم. ثمّ خرجت على جماعتك التّي ربّتك، وبادرتَ إلى تأسيس جماعة خاصّة بك. فرأينا في ذلك حقًّا من حقوقك، إذ لا ينبغي للواحد أن يتدخّل في شؤون الآخرين، فيمنح لنفسه حقًّا ليس له.

ما معنى أن يتنازل رجل سياسيّ عن لقب يتنافى مع سيادة الشعب، في مقابل تمسّك مثقّفٍ وجامعيٍّ وفقيهٍ وداعيةٍ بما هو أكبر من ذلك اللّقب؟

وما هي إلا شهور حتّى سخّرتَ نفسك ومن معك لتزكية مسار تواطأ معظم الشّعب على أنّه ضدّ قناعاته وتطلّعاته التّي حملها الحراك الشّعبيّ والسّلميّ إلى أقاصي الأرض وأعالي السّماء، فقبلتَ أن تكون عضوًا في حكومة هي أردأ وأفسد حكومة عرفها الاستقلال، ولا تشبهها في التّاريخ المعاصر إلّا حكومة فيشي في فرنسا، خلال أربعينات القرن العشرين.

اقرأ/ي أيضًا: بلمهدي: ليس بيننا وبين الشيخ شمس الدين أيّة حسابات شخصية

يومها، صار بإمكاننا أن ننقدك أو نسخر منك، أو نرجو عودتك إلى جادّة الشّعب، لأنّ الأمر لم يعد يتعلّق بمسارٍ خاصٍّ يعنيك، بل بمسارٍ عامٍّ يعنينا، لكنّك رحت تسخّر ما تحفظ من كلام ربّانيٍّ ونبويّ مقدّس لتبرير خيارك وتزكية مسعاك الذّي بات من مسعى النّظام.

صمدت حكومتك عديمة الشّرعية، حتّى تمّت الانتخابات الرّئاسيّة، فعُيِّنتَ مرّةً أخرى في الحكومة الحالية التّي هي مخدوشة الشّرعيّة. لكنّ حرصنا على الأمن القوميّ العامّ، جعلنا نقبل بالأمر الواقع، وننسى لك سوابقك، تطلّعًا منّا (وأنا هنا أستعمل الجمع بصيغة المفرد، فلستُ ناطقًا إلا باسم ضميري) إلى واقع جديد نادى به رجال الدّولة الجدد عسكريّين ومدنيّين، يقوم على احترام الحرّيات واختلاف الآراء وترسيم الإرادة الشّعبيّة وتثمين التنوّع والتعدّد المؤطّر بتقديس الرّوح والوحدة الوطنيِّتين. خاصّة أنّك تشرف على قطاع حسّاس يمكنه أن يقتل ويُحيي ويُنبت ويُجفِّف ويُقدِّم ويُؤخِّر، في ظلّ ضمير شعبيٍّ عامٍّ هو من أكثر الضّمائر الشّعبيّة تقديسًا للدّين في العالم.

وفجأةً طلعتَ علينا بما لا يطلع به عاقل، إن لم يكن بصفته عالمًا، فبصفته مواطنًا، فاستدعيتَ مصطلحًا من القرون الأولى ودعوتنا إلى اعتناقه وتبنّيه هو مصطلح "وليّ الأمر" ووجوب طاعته إلى درجة أنّنا مطالبون، بتعبيرك، بالاحتفاظ بآرائنا المخالفة له في صدورنا، وعدم نشرها في مواقع التّواصل الاجتماعيّ.

هل غلبك الصّوم، أيّها الوزير، فنسيتَ أنك مستوزر في حكومة تابعة لجمهوريّة شعبيّة ديمقراطيّة، ولا وجود لمصطلح "وليّ الأمر" في أدبيّات الجمهوريّات؟ ولنفرض أنك نسيتَ أو رأيت من سلوكات بعض الذّين عيّنوك ما جعلك تجرؤ على قول ذلك، فما بالك غفلتَ عن روح بيان أوّل نوفمبر وتضحيات شعبك في مظاهرات 05 تشرين الأوّل/أكتوبر، ثمّ تضحياته ضدّ خطاب الدّولة الثيوقراطيّة، في تسعينات القرن العشرين، حتّى أنّه دفع من أولاده وبناته ما يساوي تعدادُه تعدادَ بعض الشّعوب الحيّة في العالم.

يومها كنتَ أنت ضدّ ذلك الخطاب، في ظلّ جماعتك التّي كان من شهدائها الشيخ محمّد بوسليماني، ربيّ يرحمو ويوسّع عليه. وكنتَ تجعلنا نقول، نحن الذين على غير منهج الإسلام السّياسيّ: "لا بأس. إنّه خطاب يصبّ في المنطق الجمهوري لا الثّيوقراطيّ". فما بالك دافعتَ عن مصطلح "الرّئيس المنتخب" حين كنتَ إسلاميًّا، وبتّ تدافع عن مصطلح "وليّ الأمر" حين صرتَ وزيرًا؟

أو لعلّك نسيتَ أنّ البلاد حديثة عهدٍ بحراك شعبيٍّ عارمٍ لم يندلع بسبب جوع البطون، بل بسبب رفض احتكار روح الجمهوريّة باسم روح "وليّ الأمر" التّي كان عبد العزيز بوتفليقة يتصرّف وفقها؟ هل تظنّ أنّ روح الحراك قد انطفأت نهائيًّا، فغرّك بالشّعب الغرور؟

لستُ متعسِّفًا فأغفل عن كون "سبب نزول" مصطلح "وليّ الأمر" على لسانك كان في سياق توقيف برنامج تلفزيونيّ لناشط دعويّ بسبب أنّه قدّم فتوًى دينيّةً تتعارض مع الفتوى الرّسميّة في موضوع معيّن، لكن ألم تكن مطالبًا باسم الرّوح الجمهوريّة أن تتجاوز هذا المصطلح، حتّى في ذلك السّياق؟ مثلما تجاوز رئيسُك نفسُه لقبَ "صاحب الفخامة"، سعيًا منه إلى تكريس هذه الرّوح، في ظلّ حراك شعبيّ كبير، بغضّ النّظر عن كون خطوته تلك حقيقيّةً أم تمثيليّةً، فلسنا من حرّاس النّوايا؟

ما معنى أن يتنازل رجل سياسيّ عن لقب يتنافى مع سيادة الشعب، في مقابل تمسّك مثقّفٍ وجامعيٍّ وفقيهٍ وداعيةٍ بما هو أكبر من ذلك اللّقب؟ قد نجد لك أعذارًا في أن تكون معهم، بنيّة المساهمة في الإصلاح والحفاظ على الدّولة، فلسنا حرّاس نوايا كما قلتُ، فهل نحن مطالبون أيضًا بتفهّم أن تكرّس، باسم الدين، ما تنازلوا عنه باسم الضّغط الشّعبي؟

هل نحن مطالبون أيضًا بتفهّم أن تكرّس، باسم الدين، ما تنازلوا عنه باسم الضّغط الشّعبي؟

أرى أنّه مثلما استطاعت فرنسا أن تمكث في ديارنا 132 سنةً، بسبب "الحركى" الذّين كانوا يتفوّقون عليها في اعتبارها ديارًا فرنسيّة، تأخّرنا في إقامة دولة مدنيّة يُسيّرها المصطلح/ السّلوك الدّيمراطيّ والحداثيّ، بسبب نخبةٍ ثقافيّة ودينيّة وسياسيّة مغشوشة ورديئة وعديمة الضّمير الوطنيّ والإحساس بالمسؤوليّة التّاريخيّة، برّرت سياسة الإجهاض عوضًا عن رعاية سياسات الانبثاق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

إيقاف برنامج أشهر مفتي تلفزيوني في الجزائر

البرامج الدينية على القنوات الفضائية.. فتاوى على مقاس السلطة؟