مغادرة قضبان السجن والعودة مجددًا إلى الحياة الطبيعية هي معجزة في نظر كثيرين ممن قذفت بهم الحياة إلى الجريمة والنّصب والاحتيال وخيانة الأمانة في العمل وغيرها من القضايا التي يرافع لها المحامون في المحاكم، فالخروج من السّجن على حدّ وصف كثيرين ممن عايشوا التجربة هي كمن عاد إلى حياة بلا عنوان.
يتذكّر ياسين جيّدًا عندما اعتدى على صديقه بآلة حديدية في "الدّلالة بحي باب الوادي الشّعبي بالعاصمة دخل على إثرها في غيبوبة لأزيد من أسبوعين
حياة بلا عنوان
دخل الشاب ياسين (31 سنة) سنة سجن الحراش بالعاصمة الجزائرية في سنّ العشرين، بعدما قضى محكوميته عقب جريمة يعترف أنّه ارتكبها، وربما فعل أكثر ممّا سرده لـ "الترا جزائر"، لكنّه في مقابل ذلك يتحدث أنه لا وجهة له، ولا تفكير في المستقبل، بعد مضي عام في التسكّع بين شوارع باب الوادي ووادي قريش وغيرها من الأماكن التي بات لا يعرفها، بل أصبحت بالنسبة إليه غريبة، يفكّر اليوم في الحرقة أي الهجرة السرّية، فلا أحد يُمكنه أن يصدّق أنه عاد إلى الحياة مجدّدًا ليعيد عيشها بطريقة جديدة وأكثر صدقًا مع نفسه، على حدّ تعبيره ولكن...
اقرأ/ي أيضًا: وزارة العدل: لا كورونا في السجون والمحبوسون الجدد يخضعون للعزل
يتذكّر ياسين جيّدًا عندما اعتدى على صديقه بآلة حديدية في "الدّلالة"، أي في سوق الخردة بحي باب الوادي الشّعبي بالعاصمة، دخل على إثرها في غيبوبة في المستشفى لأزيد من أسبوعين، وقتها كان عمره أقلّ من 18 سنة.
يتذكّر تلك اللّحظات قائلًا بلهجة شعبية: "كنت ماشي في راسي" أي أنه لم يكن في وعيه ويتعاطى المخدّرات، بل أكثر من ذلك، كان يخوض كل يوم عراكًا مع الباعة في السّوق حيث يبيع الخردة، ألبسةمستعملة أحيانًا وأجهزة إلكترونية مستعملة، ويبيع الحبوب المهلوسة رفقة عدد من أصدقائه، وفي كلّ مرة تقبض عليه الشرطة، إلا أنه يفلت من العقاب الشّديد، مرة ستة أشهر حكم ومرة عام ومرة يخرج من الحبس بعد العفو الرئاسي، ولكن في الأخير لم تسلم الجرّة كما في كلّ مرة، كما يقال.
حقيقة
دخول السجن كلّفه غاليًا، وكلّف أيضًا عائلته الكثير، فتوفيت والدته بعد عامين من حبسه، ثم لحقها بعد أربع سنوات والده، وبدأ يعيش حالة انفصام قوية بين جدران السجن والأخطاء التي ارتكبها، عل حدّ تعبيره.
طرح المتحدث لـ"الترا جزائر" عدة أسئلة تباعًا: "في السّجن ماذا تتعلّم؟ ماذا ستجني؟" فحتى وإن كانت الظروف داخل أسواره جيّدة ونتعلم الحرف والصبر، إلا أننا نعيش ضمن فضاء يعجّ بالخارجين عن القانون"، وكل قصّة فيه تنسيك التي سبقتها، بل أكثر من ذلك "هناك أشياء لا يمكن سردها حتى بين الشخص ونفسه، أكبرها أنك تتردّد في التوبة القانونية بعد الخروج منه"، أي أن السجن يزيد البعض حالة من العودة إلى الانتقام، أو الهروب من الواقع الذي هو فيه.
السّنوات الأولى، هي سنوات النّسيان، فهل ستنسى؟ لا أبدًا، هناك تزيد شحنة التّساؤلات، لماذا لم أدرس مثل أصدقائي وجيراني ولماذا لم أكمل الدراسة؟ ولماذا كنا نعيش في بيت قديم في أعالي القصبة؟ ولماذا والدي لم يقدر على أن يحصل على سكن لائق، ولماذا ...؟ هذه الأسئلة جعلتني يوميًا أفكّر في الانتحار، نعم الموت هو الحلّ النّهائي لحالة سجين شاب سيخرج في جسد شيخ.
"القبر المنسي"
قصة ياسين هي إحدى القصص الكثيرة للخارجين من السّجون، فهكذا تمكّن السجين الذي دخل أبوابًا حديدية لفترة تزيد عن عشر سنوات أو عشرين سنة، يصف حياته بعد المحكومية التي طالته لذنب اقترفه أو خطيئة سيقت إليه وهو في عزّ الشباب، يخرج كمن عاد لمكان لا يعرفه ولأهل لم يتعرف عليهم ولجيران لم يسبق له أن عاشرهم ولأحبة نسوه في زحمة الحياة.
يتأسّف ياسين أنه بعد الخروج، وجد نفسه يعيد الكرة ليلتقي بزملاء عرفهم في السّجن، وهنا بدأ يفكّر في الـ" الحرقة"، لأنه لم يجد طريقًا للتأقلم مع مستجدات الحياة، فكأنه رجع إلى مكان لم يعرفه إطلاقًا، وعليه أن يغير الفضاء الذي عاش فيه من قبل.
سجين آخر، وصف حياته اليوم أنها كـ "القبر المنسي" الذي لا يزوره أحد، ولا يتذكره أحد، فالمسجون في نظر المجتمع " شيطان" يقول عبد الكريم (48 سنة) ويصف نفسه بأنه ميت منسي، أو ذلك الشخص الذي تمزقت ورقة حياته من دفتر عائلي، إذ قضى 15 سنة في السجن هو الآخر، وعاش حالة من الرّكود والخمول والانتظار.
يعلّق المتحدث: "أعيش يوميًا لحظات انتظار، ولا أعرف هل سياتي يوم لأعود إلى الحياة العادية، أسئلة تقتلني يومًا، وأخرى تجعلني لا أجد لها إجابات".
مرفق اجتماعي
العودة لحضن المجتمع ليس سهلًا، فالفاتورة التي دفعا المساجين، لا يمكنها أن تسدد مرحلة ما بعد السجن، إلا أن الإصلاحات التي تشهدها المؤسّسات العقابية في الجزائر، تدفع بالسّجين إلى فتح صفحة جديدة، عن طريق خوض تجربة التعلّم داخل أسوارها.
يتابع السجناء الدّروس للحصول على مستويات تعليمية وتأهيلهم، بعد فشلهم في الوصول إلى ذلك قبل الحبس، بالإضافة إلى التكوين في مجالات شتّى، أهمّها تكوينهم في العديد من الحرف، حتى تمكّنهم من الالتحاق بعالم الشغل، والحصول على عمل يليق بإمكانياتهم بعد انتهاء العقوبة.
للوصُول إلى هذه الفرص، أو إلى هذه الوضعية الخاصّة بمحطة ما بعد السّجن، تساهم البرامج الإصلاحية والتعليمية في السّجون الجزائرية بعديد البرامج المتاحة للمساجين، الهدف مِنها حسب الباحث في القانون الجنائي وليد بوفرات تهيئتهم لما بعد استنفاذهم لمدة العقوبة داخل السجون، لافتًا في إفادته لـ"الترا جزائر" إلى أنّ مختلف المخطّطات التي وضعتها إدارات السّجون الجزائرية تستهدِف تقويم الأنماط السّلوكية للمساجين وإعادة تهيئتهم للاندماج بسهولة في الحياة الاجتماعية.
وأضاف بوفرات قائلًا إن هذه العملية ليست بالسّهلة لا على المسجون ولا على المؤسّسة العقابية، لأن الاشتغال على نفسية وسلوكات المساجين خصوصًا المحكوم عليهم بأكثر من عشر سنوات سجن وغيرها من المحكوميات الطويلة الأمد تحتاج إلى عمل تتظافر فيه عديد العوامل.
وتبعًا لما سبق، فبالنسبة للقانون الجزائري فالمؤسسات العقابية عرفت تطورًا كبيرًا السنوات الأخيرة، حيث لم تصبح هذه المؤسّسات السّجنية أمكنة لتنفيذ العقوبات السّالبة للحريات الشّخصية للمحبوسين، وفضاءات تقطع علاقاتهم المتعدّدة التي تربطهم بالعالم الخارجي، سواء مع العائلة والأصدقاء، بل أصبحت أيضًا مرفقًا اجتماعيًا، يستجيب لرغبات المساجين بهدف إحداث تغييرات إيجابية لإعادة بناء شخصيتهم من النواحي النفسية والذهنية والسلوكية، وذلك عبر برامج تأهيلية يعدها أخصائيون تبعا للسياق الاجتماعي العام للبلد والثقافي والاقتصادي أيضًا.
كما تؤدّي اليوم هذه المؤسّسات دور الشّريك الأساسي لتنفيذ سياسات اقتصادية، من خلال إمداد سوق الشّغل بمهنيين والخبرات والكفاءات المهنية المتخصصة.
حُضن المجتمع
كفضاء مغلق، يُمثِّل السّجن مجتمعًا قائمًا بذاته، له ثقافته وبناؤه الاجتماعي الخاص به، إذ لفتت الأخصّائية النفسانية الأستاذة فريدة عجال إلى أنّ السّجن مثله مثل المجتمع يتشكَّل من عدّة متغيّرات كنوع الجريمة والانتماء الاجتماعي (القبلي أو الجِهة أو المنطِقة التي ينتمي إلها المسجون)، مشيرة إلى أن السّجن عمومًا يعدّ مضادًا حيويًا اجتماعيًا، يتعلّق بالحالات الاجرامية المستعصية أولا كما أنه ضرورة آلية لبناء اجتماعي.
وفي سياق آخر، أكدت الأستاذة عجّال التي قامت بدراسة حول هذا الموضوع بالتحديد، أن السجين يمكنه أن يخرج من سِجنه المادي إلى سجن آخر، من حالة الرفض أو التمرّد على المجتمع الذي نبذه سابقًا وأقصاه أيضًا من الاندماج مجدّدا في النّسيج الاجتماعي ويبعِده عن محيطه وبيئته.
وبالحديث عن حالة ياسين المذكورة آنفا، قالت لـ"الترا جزائر" إن الكثيرين عاشوا نفس الحالة رغم الرعاية التي يجدونها داخل السجن لأن المسجون سيكون محكومًا بعقلية المجتمع التي تتأسس على فكرة "سجين سابق"، أو عدم الاعتراف به وإقصائه.
وواصلت قائلة " نحن أمام واقع وجب معايشته، ولا يمكننا أن نغفل عنه، حتى وإن بذلنا الجهد الكبير في الإصلاح داخل المؤسّسات العقابية"، مشيرة إلى أن السّجن فضاء مغلق يشعر فيه المسجون بأنه "عديم القيمة" ولم يعد يصلح لشيء وأن ذاته مسحوقة، ومجروح بالعزلة الاجتماعية والإقصاء الاجتماعي، وشعوره الدائم بالخطأ الذي ارتكبه، الذي يلاحقه حتى وإن قضى جزاءه، خاصّة المجرمين الذي انقلبوا على النظام الاجتماعي وعاداته وقوانينه الضّابطة.
من بوابة السّجون، ولدت العديد من المواهب، أو الكثير من الأشخاص الذين رجعوا إلى أسرهم وعائلاتهم ووجدوا في المهنة التي تعلموها وراء الأسوار ملاذًا لهم
من بوابة السّجون، ولدت العديد من المواهب، أو الكثير من الأشخاص الذين رجعوا إلى أسرهم وعائلاتهم ووجدوا في المهنة التي تعلموها وراء الأسوار ملاذًا لهم، إذ هي أحد المداخل الإيجابية للاسترزاق بعد الإفراج عنهم، في المقابل هناك من وجدوا صعوبات في التأقلم مع المجتمع متخذين طريق الهروب والهجرة غير الشرعية كحلّ أو العودة لطريق الانحراف، بينما يصرّ المهتمون بهذا المجتمع المغلق على أن مفهوم العقاب وجب أن يتخلّص من شكل الردع المفرغ من المحتوى الإنساني، وتوجيه المساجين نحو الحياة السية رغم صعوبة المهمّة.
اقرأ/ي أيضًا:
زغماتي: السجون مكتظّة وعلى الولاة التسريع في بناء المؤسسات العقابية
جزائريون يستقبلون "كورونا" بالسّخرية والاستهزاء