12-أكتوبر-2018

تمثال الأمير عبدالقادر الجزائري مُشهرًا سيفه (Getty)

كان اللّيل يُرخي رداءه الجميل أو المخيف، على الجزائر العاصمة، التي كانت تنكمش على شققها وشقوقها المضاءة والمظلمة لتنام باكرًا، وربّما من غير عشاء، حين وقفت على تمثال الأمير عبدالقادر في شارع الشّهيد العربي بن مهيدي. لماذا تنام العاصمة الجزائرية مع غروب الشّمس، حتى أنه يصعب إيجاد مطعم مفتوح في معظم مفاصلها؟ لماذا فشلت كلّ المحاولات الرّامية إلى برمجتها على السّهر مثل كلّ الحواضر المتوسّطية؟

كان الأمير عبدالقادر الجزائري شاعرًا ومتصوفًا وإنسانيًا، وليس فقط عسكريًا كما توحي صورة السيف والحصان المستنفر في تمثاله

كان الأمير عبد القادر الجزئري، من خلال تمثاله، يُشْهر سيفه نحو البحر. فتمنّيت لو أنّه كان يحمل كتابًا بيده الأخرى. ذلك أنّه كان شاعرًا ومتصوّفًا إنسانيًّا أيضًا، وليس عسكريًّا فقط، كما توحي به صورة السّيف والحصان المستنفر لخوض المعركة. فكتابات الرّجل تدرّس في كثير من جامعات العالم الغربي، وتقدّم نموذجًا حيًّا على التّسامح والعمق الفكريين والإنسانيين خلال القرن الـ19.

اقرأ/ي أيضًا: تمثال الأمير عبدالقادر.. ماذا بقي من الرمز؟

لماذا نركّز، ونحن نقدّم رموزنا التّاريخيين، على الجوانب العسكرية والحربية فيهم فقط؟ رغم أنّهم كانوا ينطلقون من رؤية فكرية وفلسفية في الحياة؟ فهل كان العربي بن مهيدي، الذي يحمل الشّارع المحتضن للتّمثال اسمَه، أمّيًا حتّى لا نقرأ عنه إلا أنّه كان مقاتلًا شجاعًا؟ وكذلك الأمر بالنسبة للالة فاطمة نسومر (1830 ـ 1863) ويوغرطا (توفّي سنة 104 قبل الميلاد) ويوبا الثاني (توفّي سنة 23 بعد الميلاد)؟

ولعل الاستثناء الوحيد هو طارق بن زياد، الذي عرفناه من خطبته الجميلة، بغضّ النظر عن مدى صحّة نسبتها إليه، أكثر من معرفتنا له من خلال معاركه الأندلسية. وأظنّ أنّ هذا الاستثناء جاء من كونه وصلنا في الجزائر ضمن المدّ المشرقي و"الحنين" الأندلسي.

تجلّى منطق العسكرة هذا أكثر، في إطلاق أسماء ثوريين ومحاربين، على مؤسساتنا الفنّية والتعليمية والجامعية والثقافية، فكبرنا على هوّة صارخة بين مضمون الاسم ومضمون المؤسّسة. وأراه واحدًا من الأسباب، التي خلقت، بدورها، هوّة بين هذه المؤسّسات والمجتمع، فبقيت خاضعة لروح الجدران لا لروح الإنسان.

صحيح أنّ الثوريّ الفلاني كان بطلًا جديرًا بنا أن نفخر به، لكن هل من المنطق أن نطلق اسمه على مؤسّسة فنّية أو معرفية، وهو لم يمارس يومًا فنًّا أو ينتج معرفة؟ أيّة رسالة أردنا أن نمرّرها لطالب جامعي يدرس في جامعة للآداب أو العلوم والتكنولوجيا تحمل اسم شهيد كان يجد صعوبة في كتابة اسمه؟ ما عدا رسالة أن البذلة العسكرية هي المنطلق والأفق في هذه البلاد؟! كم من مؤسّسة علمية تحمل اسم شهيد من النخبة المتعلّمة، التي التحقت بثورة التّحرير في 19 أيار/مايو عام 1956؟

لقد أسّسنا بهذا المنطق المُعَسكَر، على مدار 60 عامًا من الاستقلال الوطني، لواقع علينا مراجعته فورًا، هو أنّ الضّامن الوحيد لمستقبل الشّابّ، انخراطه في مؤسّسات الجيش، مع مراعاتنا لأهمية ذلك في سياقه المدروس، لا في مؤسّسات المجتمع المدني.

على مدار 60 عامًا أسس منطق العسكرة لواقع علينا مراجعته، هو أن الضامن الوحيد لمستقبل الشاب، انخراطه في مؤسسات الجيش وفقط

فمن ثمار الّتناول العسكري لحياتنا المدنية، تحويل أحيائنا -وسمّي الشّارع بالحيّ لتدفّق الحياة فيه- إلى أرقام بلا روح ولا ذاكرة: حي 950 وحي 450 وحي 1008، فكانّها ثكنة عسكرية لا تجمّع سكني مدنيّ يضجّ بالذاكرات. فهل بقي لنا، بعد هذا، مبرّر لأن نسأل عن سبب العنف، الذي بات يسكن يومياتنا؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجمهورية الجزائرية المتناقضة

حاجة الجزائريين إلى الصمت.. ثمرة الفراغ ثرثرة