25-فبراير-2020

الصحافيون الجزائريون احتجّوا في بداية الحراك ضدّ ضغوطات السلطة (تصوير: رياض كرامدي/أ.ف.ب)

منذ اندلاع الحراك الشعبي في شبّاط/فبراير2019، كان تحرير الإعلام أحد أبرز العناوين الكبرى للمطالب السياسية المرفوعة منذ تلك اللحظة المفاجئة، خلال المسيرات الشعبية في الجزائر.

تفاعلت عدّة وسائل إعلامية مع الحدث، تجاوبًا مع هامش الحرّية الذي أتاحه حراك الصحافيين في بداية الحراك

في الذكرى الأولى للحراك الشعبي في الجزائر، أعادت العديد من الصحف الجزائرية، اكتشاف الحراك ومظاهراته ومسيراته بعد أشهر من تجاهله، وأفردت مساحة هامّة لمظاهرات الجمعة، علاوة على القنوات التلفزيونية التي غطت المسيرات بتقنية البث المباشر، في القنوات الخاصّة وحتى في التلفزيون العمومي.

اقرأ/ي أيضًا: رئاسة الجمهورية "تتوعّد" الصحافيين وتحذّر من الدعاية خارج بياناتها

بعد أشهر من القطيعة بين الشارع والإعلام، عاد الأخير للمظاهرات في الذكرى الأولى للحراك، في اليوم الثاني والعشرين من شهر شبّاط/فبراير الجاري، المصادف للذكرى السنوية الأولى لانطلاق المسيرات الشعبية.

مهنيًا، هناك "سقطات" وقع فيها الإعلام الجزائري خلال فترة العام الماضي من عمر الاحتجاجات الشعبية، ففي الأيّام الأولى من عمر الحراك الشعبي، وُضع الإعلام بأنواعه السمعي- البصري والمكتوب والإلكتروني، أمام امتحان التزامه بالمهنية وتقديم خدمة عمومية، وتغطية الأحداث ونقل المعلومة للمواطنين.

الشارع .. حرية

في الفترة الأولى من الثورة الشعبية، تفاعلت عدّة وسائل إعلامية مع الحدث، تجاوبًا مع هامش الحرّية الذي أتاحه حراك الصحافيين والمؤسّسات الإعلامية، وانكسار حاجز الخوف والرقابة المسلّطة عليه، بسبب عين الرقيب وتوظيف ورقة الإشهار من طرف منظومة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، واستدعاءً للقواعد المهنية والضوابط الأخلاقية التي يُفترض أن تضبط العمل الصحافي.

لكن هذه المرحلة لم تدم طويلًا، ففي غضون أشهر قليلة فقط، كانت السلطة السياسية الجديدة، والمؤسّسة العسكرية باعتبارها سلطة فعلية، أعادت الهيمنة على المؤسّسة الإعلامية، وضبطت خطّها التحريري على إيقاعٍ جديدٍ يبتعد شيئًا فشيئًا عن الحراك الشعبي، إذ لم تعد مظاهرات الشارع الجزائري عبر مختلف الولايات، تحظى بالتغطية في القنوات والصحف، بحجّة تبنّي الحراك الشعبي لمطالب ومواقف راديكالية، وترديده شعارات مناوئة للجيش وقيادة المؤسسة العسكرية.

من جهة أخرى، لم يعد الناشطون والشخصيات المعارضة مرحبًا بهم في القنوات والصحف. وكانت السلطة في الجزائر وبغضّ النظر عن تغير الفاعل المركزي في صناعة القرار السياسي وطبيعته، مازالت تمسك بالأدوات التي تتحكم في الإعلام، خاصّة الإشهار الذي يمثل العصب الحساس وأكثر الأدوات التي استخدمتها السلطة في إخضاع الصحف والقنوات، وفرض خطوط حمراء عليها، وهو ما سهّل للسلطة استعادة السيطرة، سواءً في القنوات والصحف العمومية أو المستقلة المملوكة للقطاع الخاص.

في هذا السياق، يؤكّد الباحث في الإعلام والاتصال مصطفى بوراس أن الإشهار يظلّ عامل ضبط داخلي في المؤسسات الإعلامية ووسيلة ضغط على ملاك المؤسّسات، ملفتًا في تصريح لـ "الترا جزائر"، أن الإشهار العمومي هو عبارة عن العصا التي تحرّكها السلطة كيفما شاءت لتسيير المؤسّسات الإعلامية وتوزيعه، إذ يعتبر "وجه الرضا عن هذه المؤسّسات وخطها التحريري."

الثّابت حسب الأستاذ بوراس، هو أن الجزائر تعرف منذ سنوات إعلامًا موجّهًا تحكمه معايير سياسوية واقتصادية بحتة، علاوة عن "الغلق عن المعلومة، وتوجيه الأخيرة كيفما كانت تريد السلطة الفعلية في البلاد"، مشيرًا هنا، إلى أن الرئيس السابق تعامل مع الإعلام بنظرة فوقية، ما ترتّب عنه إعلام غير مستقلّ وغير حرّ، وأحيانًا يذهب في محنى اللامهنية التي "سارت على درب القفز على المصداقية والموضوعية، والتعامل مع الخدمة العمومية بمنهج ملكية الرئيس"، كما قال، مبتعدة عن مراقبة السلطات الثلاث وتلميع صورة المنظومة السياسية، التي طالبت بعهدة رئاسية خامسة لبوتفليقة.

قبيل استقالة الرئيس بوتفليقة في الثاني من نيسان/أفريل 2019، كانت تلك الفترة امتحانًا عسيرًا لدى بعض المؤسّسات الإعلامية، التي كانت محسوبة ولا تزال على رجال الأعمال، وتتغذى من مهادنة واضحة مع السلطة السياسية في البلاد، واعتبرت وقتها الرئيس بوتفليقة قبيل رميه لمفاتيح المرادية "رجل الإجماع"، وروّجت لدعوات الأحزاب والجمعيات وبرامج الحكومة، ومنحت تزكية إعلامية لترشّحه لعهدة رئاسية خامسة.

كلّ هذه النّقاط، تعتبرها الباحثة في قانون الإعلام نورة بودينة، من جامعة باتنة شرقي البلاد، عبارة عن مرحلة سياسية بامتياز، موضّحة لـ "الترا جزائر"، أنّه لا يمكن للمؤسّسات الموجودة في الساحة، أن تزيغ عن النهج والخطّ المسطر لها، معتبرة هذه المواقف بحاجة إلى إعادة هيكلة وتنظيم للقطاع الإعلامي في الجزائر، خصوصًا  في المواعيد الحساسة والحاسمة والمصيرية، على اعتبار أن الإعلام هو منبر للوعي والتثقيف والتوعية، بعيدًا عن حسابات الساسة ورجال الأعمال"، على حسب قولها.

فراغ قانوني قاتل

في الفترة الثانية من عمر الحراك الشعبي، التي عقبت قرار تأجيل الانتخابات الرئاسية للمرّة الثانية، التي كان من المفترض إجراءها في الـ 4 تموز/جويلية الماضي، كان ثمة إجماع على أن الإعلام في الجزائر لم يرق بشكلٍ كبير، إلى مستوى المرحلة السياسية التي شهدتها الجزائر، خلال سنة من الحراك الشعبي، الذي رفع سقف المطالب عاليًا، لأسباب وعوامل عديدة، بعضها يتعلّق بالبيئة التشريعية غير الواضحة، والفراغ القانوني الذي تعيش فيه خاصّة القنوات المستقلة والمواقع الإخبارية، وضعف تجربتها في التعاطي مع أحداث مفصلية كالحراك الشعبي، بسبب حداثة التجربة السمعية البصرية خاصة ( بدأت عام 2012 )، والحجم الكبير للضغوط التي مارستها السلطة من جهة ، وعدم وجود مواثيق ومحددات تفرض التزام المؤسسة الإعلامية في الجزائر بالمسألة الديمقراطية وضعف نقاشها حول هذه العناوين السياسية.

هنا، يوضّح الإعلامي سعيد زيتوني، أن ثمّة مشكلات أخرى زادت من مأزق الإعلام الجزائري اتجاه الحراك الشعبي، والمسألة الديمقراطية والحريّات والانتقال الديمقراطي، وسهلت للسلطة فرصة الضغط وفرض محدّداتها على الإعلام، وهو مشكلة التنظيم وغياب نقابة تمثيلية تجمع الصحافيين في الجزائر، إذ أخفقت الكثير من التجارب في بناء نقابات مهنية في السابق، حيث تتوفّر الجزائر على نقابة واحدة معطلة منذ التسعينات، ومجلس وطني للصحافيين أنشأ حديثًا فقط.

وخلق هذا الوضع تباينًا كبيرًا، وتفاوتًا في موقف السلطة من المؤسّسات الإعلامية، ومسألة توزيع الإشهار حسب موقف وقرب المؤسّسة الإعلامية من خيارات السلطة، وصل إلى حدّ انقلاب لافت في المعايير المهنية، ففي وقت سابق كانت صحيفة "النهار الجديد" على سبيل المثال لا الحصر، المقربة من نظام بوتفليقة، تصدر بعدد كبير من صفحات الإشهار، لكنها تحوّلت في الوقت الحالي إلى صحيفة مستهدفة في عهد الرئيس الجديد، خاصّة بعد توقيف مديرها العام محمد مقدم المدعو أنيس رحماني، حيث منعت مؤخّرًا من صفحات الإشهار العمومي، وهو ما دفعها إلى تخفيض عدد صفحاتها، وعدد النسخ التي كانت توزّعها في السابق.

خط غير مستقيم

عودة التغطية الإعلامية للحراك الشعبي، تتعلق أساسًا بمسايرة لقرار الرئيس عبد المجيد تبون، الاحتفال بذكرى الحراك، واعتباره يومًا للتلاحم بين الشعب والجيش، إذ ينظر إليها، أيّ فتح الفضاء الإعلامي للتغطية والمتابعة للأحداث المتعلقة بالمسيرات، على أنها لا تتعلق في الغالب بتحوّل في الموقف الإعلامي والمهني، ولكن بخلفية سياسية تؤكد استمرار تبعية المؤسسة الإعلامية للسلطة السياسية، وعدم تحرّر قطاع الصحافة.

امتحان عسير تمرّ به الصحافة، سببه اللحظة التاريخية التي يعيشها الجزائريون خلال عام كامل، واختبار محفوف بالمخاطر يمرّ به الإعلام بعديد أشكاله، غير أن الحراك الشعبي، رسّخ طوال هذه المدّة، تلك القطيعة بين الإعلام كمنظومة قيم، والشارع كجماهير صدحت بالحرّية و "لا للفساد ولا للعصابة".

عودة التغطية الإعلامية للحراك الشعبي، تتعلق أساسًا بمسايرة لقرار الرئيس عبد المجيد تبون

 هي قطيعة جعلت من الحناجر تهتف بشعارات تتهم "الصحافة بالتواطؤ وخيانة الإرادة الشعبية"، رغم أن ظروف المهنيين في المؤسّسات الإعلامية، هي الأخرى أحد أوجه الممارسات التي كانت تعكف عليها المنظومة السياسية القديمة، وهو ما يعني أن القطيعة ستتواصل، وتخلّف معها حالة انفصال حقيقية بين الواقع ومخرجات المؤسّسات الإعلامية، إلى حين إعادة النظر في الكيانات الإعلامية، وترتيب فوضى القطاع ككلّ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الإعلام الجزائري في 2019.. "سلطة راكعة"؟

 الإعلام الجزائري بعد الحراك.. خطوة إلى الأمام وأخرى إلى الخلف