25-أبريل-2019

المغني الجزائري عبدالرؤوف دراجي، الشهير بـ"سولكينغ" (يوتيوب)

كان بروك موسيقارًا في سفينة قراصنة، ركب البحر برفقة كمنجته الصغيرة وأحلامه الكبيرة للوصول إلى بحر "الغراند لاند" المليء بالمفاجآت والمخاطر. ظهرت هذه الشخصية في فيلم الأنمي الياباني "وان بيس"، على هيئة هيكل عظمي طويل ونحيف، لديه شعر كثيف ومجعّد، ويرتدي بدلة كلاسيكية تعود للعصر الفيكتوري، وقميصًا له ياقة مجنّحة رتّبها بوشاح أزرق مرصّع بالأقفال، ويعتمرُ قبعة سوداء عالية تشبه قبّعة العم سام، ويضع نظارات برّاقة أعلى رأسه.

في العالم الحقيقي ثمة شاب جزائري شبيه ببطل فيلم الأنمي "وان بيس"، إنه المغني عبدالرؤوف دراجي الشهير بـ"سولكينغ"

يتميّز بروك من بين جميع القراصنة، بأنه شخصية مرحة وعبثية، يستعمل العزف على الكمنجة كسلاح فعّال ضمن أسالبيه القتالية، ويُطلق ضحكات عالية على وزن "يوهوهوهوهوووو"، كما أنه عُرف بتناوله لـ"فاكهة الشيطان" التي تعزّز قدرته في العودة إلى الحياة.

اقرأ/ي أيضًا: هشام قاوة.. الموسطاش يرسم الحراكَ الشعبي بألوان الـ"بوب آرت"

بروك الحقيقي

في العالم الحقيقي هناك شاب جزائري مهاجر، طويل القامة، نحيف القوام، قمحي البشرة، سيظهر لاحقًا في سترات "الكول غولي" ذات الياقة المدوّرة، والمعاطف الداكنة، مرتديًا قبعة رياضية ونظارة فاتحة.

هاجر إلى فرنسا سنة 2014، واشتغل في عدّة مهن صغيرة: في أسواق الخضر ومغاسل السيارات، وغير ذلك من الوظائف المتاحة للمهاجرين "غير الشرعيين"، لكنّه ظلّ متمسكًا بحلمه الذي فشل في تحقيقه في بلاده. وبعد بضعة أغان أطلقها على يوتيوب، كان "فاكهة الشيطان" الألبوم الذي أعاده إلى الحياة مجدّدًا.

سولكينغ
يقول سولكينغ إنه يبحث دائمًا عن ذاته بين نوتات الموسيقى

عبد الرؤوف دراجي، المعروف باسم "سولكينغ"، هو راقص ومغني راب جزائري من مواليد 1989 بمدينة سطوالي بالعاصمة، بدأ مشوراه الفنّي كعضو في فرقة "أفريكاجينغل". عُرف في بداياته باسم "إم سي سول"، ورغم صدور ألبوميه "شدروحك"و"إكليبس" باللهجة الجزائرية الممزوجة بالفرنسية، إلا أنه بقي فنانًا مغمورًا قبل أن يهاجر إلى مدينة مرسيليا بالجنوب الفرنسي رفقة زميليه "جام سو" و"ناس دوز ".

مسيرة صعبة

يظهر سولكينغ في حوار أجراه على القناة الفرنسية الخامسة، وهو يتحدّث عن بداية مسيرته الفنية، وتجربته في"البريك دانس". ورغم براعته في ذلك من خلال الفيديوهات التي ظهرت في البرنامج، إلا أنه عبّر عن ميوله للغناء وبحثه الدائم عن ذاته بين "نوتات" الموسيقى، مضيفًا أنه رغم التحاقه بتربّص في فن الرقص المعاصر في فرنسا لعدة أشهر، إلا أنه تخلّى عن الفكرة بسبب "وضعه الاجتماعي الصعب"، على حدّ قوله.

مزيج بين الراب والراي

بحماسة كبيرة ودون أن يضيّع المزيد من الوقت، اتصل عبد الرؤوف دراجي، الشاب الفار من الخدمة الوطنية في بلاده، بأصدقائه في مرسيليا، وبدأ بنسج علاقاته مع شركات الإنتاج. 

مكّنه ذلك من إطلاق عدّة أغاني بالفرنسية الممزوجة بلغة دارجة جزائرية، مستفيدًا من تجربته السابقة، حيث بدأت لمسته تظهر في أغانيه الأولى التي كان يمزجها بوصلات السول والريغي والإيقاع السريع لأغاني الراب، أضاف إليها بحّة أغاني الراي الجزائري.

سولكينغ
بدأ سولكينغ بدايته الحقيقية بعد هجرته لفرنسا عام 2014

وهكذا بدأ ينتشر في الأحياء الشعبية في مارسيليا ذات الغالبية الجزائرية بين الجاليات المهاجرة، وبعد إطلاقه ألبوم"جينغل صولدا " سنة 2016، أصبح يقدّم نفسه باسم سوكلينغ.

سولكينغ و"فاكهة الشيطان"

لمن يتابعون أفلام المانغا والأنمي اليابانية، سيجدون أن سولكينغ هو الاسم الثاني لشخصية بروك في فيلم الأنمي الياباني "وان بيس "، كما أن أحد ألبومات عبد الرؤوف دراجي حمل عنوان "فاكهة الشيطان"، وهي كلمة مقتبسة من أحداث فيلم الأنمي، وهي الفاكهة نفسها التي تناولها بروك وأعادته إلى الحياة. 

وزيادة على ذلك يقلّد الفنان دراجي ضحكة شخصية الأنمي سولكينغ بروك بمهارة عالية، وهي الضحكة التي أدرجها في كثير من أغانية مثل "داليدا" و"لا ليبارتي" و"غارييا".

وتتقاطع شخصية سولكينغ الفنان، مع سولكينغ بروك شخصية الأنمي، في أن كليهما موسيقيّ، وكلاهما مهاجر يريد تحقيق حلمه، ويبحث عن النجومية في الضفّة الأخرى من البحر. كما يتقاسمان أيضًا بعض السمات الشكلية، منها: الطول والنحافة.

سولكينغ
بقي سولكينغ وفيًا في أغانيه للمهاجرين وأبناء الأحياء الفقيرة في فرنسا

 ولكن هل هذا كافٍ ليُحوّل عبد الرؤوف دراجي شخصية الأنمي إلى شخصية حقيقية، ونحن نعرف أن ما يحدث غالبًا هو العكس تمامًا؛ حيث تحوّلت كثير من الشخصيات الحقيقية إلى شخصيات كرتونية في عالم الأنمي والرسوم المتحرّكة مثل شخصية جاكي شان ومستر بين وتشارلي شابلين؟!

الهجرة والعنصرية

بقي سولكينغ وفيًا في أغانيه للمهاجرين وأبناء الأحياء الفقيرة في فرنسا، فهول يمثّل الجيل الجديد من أبناء الضواحي الفرنسية القادمين من القارة السمراء، إذ حملت أغانيه معاناتهم وطموحاتهم، وصراعاتهم اليومية من التهميش والعنصرية والفقر، وصوّرت أحلامهم التي حملوها معهم من القارة السمراء.

في أغنيته "guérilla" أو "حرب العصابات"، يلخّص سولكينغ رحلة المهاجرين الأفارقة إلى القارة العجوز، ويتحدّث عن معاناتهم اليومية، فيقول في إحدى مقاطعها: "نعم نحن مذنبون، مذنبون لأننا أفارقة، مذنبون مثل القذافي أو مثل نيلسون مانديلا". هذا التوظيف الأنيق لبعض الرموز والشخصيات الأفريقية، يلفت الانتباه بشكل نوستالجي إلى الحالة التي يعيشها المهاجرون خارج وداخل أوطانهم. وهي المعاناة في كل الحالات.

يواصل سولكينغ في هذه الأغنية، التي لاقت نجاحًا كبيرًا مطلع العام الماضي، الحديث عن التفاوت الاجتماعي الذي عانى منه قبل هجرته، وهو سبب دفع بالكثير من الشباب للهجرة نحو فرنسا، فيقول: "سوف نعاني أكثر من الآخرين. الآخرون وأبناؤهم، نهبوا كل شيء، حسنًا سوف أسرق من عند الأثرياء مثل أخي باجي. أغنّي للحب وسط هذه الحرب، لأنني أحب الجزائر للأبد".

"داليدا" أغنية النجومية

وفاؤه لقضايا المهاجرين لم يكن فقط في انتقاء الكلمات والموسيقى وتوظيف عبارات عميقة من الدارجة الجزائرية، فهو حين يوظّف هذه الكلمات تشعر أنها خرجت من تفاصيل الحياة اليومية للجزائريين الذين يقطنون الأحياء الشعبية. 

ولكن وفاءه أيضًا كان من خلال بعض الاقتباسات لفنانين كانوا مهاجرين أيضًا، مثل من الفنانة داليدا ذات الأصول المصرية الإيطالية، إذ اقتبس من أغنيتها مقطع "بارول.. بارول.. بارول"، ووظفها في أغنية تحمل اسمها" Dalida"، حقّقت ملايين المشاهدات في ظرف ساعات قليلة من إطلاقها على يوتيوب، محققة المرتبة السادسة ضمن قائمة "توب وورلد وايد" لأكثر 10 أغاني استماعًا حول العالم.

كثيرًا ما يَذكر سولكينغ خلال حواراته أنه لا يغنّي طابع الراب، ولكنه يغنّي طابع السولكينغ الخاص به، وقد يرى البعض أن فلسفته الغنائية تنطلق من نزعة ناقمة على الماضي الذي كان يعيشه، ولكن أغانيه تجمع بين كثير من الأنماط، فهي تعتمد على إيقاع الراب الجامع، وضربات من موسيقى الصول والريغي وفن الراي، وهو ما جعله يلتقي مع الشاب خالد في ديو بعنوان "أميرة"، حيث تظهر لمسة أغاني الراي في صوته وفي الموال الرايوي الذي يطلقه من حين لآخر.

سولكينغ مازال قرصانًا

لم يستطع سولكينغ التخلّي عن فكرة محاكاة أفلام الأنمي اليابانية، ففي مطلع العام الجاري، عاد سولكينغ بأغنية "Vroom Vroom"، وإن كان الفيديو كليب الذي سجّله بباريس لهذه الأغنية، قد خرج من فكرة التطرّق لقضايا المهاجرين وتفاصيلهم اليومية، وتوجّه إلى الحديث عن الحب وحياة الترّف،

وتُظهر مشاهد العمل عددًا من شخصيات قراصنة "وان بيس" من بينهم القرصان "أوسوب". يقول في إحدى مقاطع الكليب: "أنا هو القبطان، اصعدي على متن السفينة عزيزتي. أنا مع اثنين آخرين من القراصنة الذين يملكون مفاتيح المدينة".

سولكينغ الذي لم يزر الجزائر منذ مغادرتهه لها سنة 2014، بسبب تهرّبه من الخدمة الوطنية بحسب ما نشره على مواقع التواصل الاجتماعي، كان قريبًا من الأحداث السياسية التي تشهدها الجزائر اليوم، ولم يتأخّر عن إطلاق أغنية "Liberté"  في ديو جديد مع فرقة "أولاد البهجة"، وهو الفيديو الذي تجاوز عدد مشاهداته 60 مليون مشاهدة في وقت وجيز.

بقي سولكينغ وفيًا في أغانيه للمهاجرين وأبناء الأحياء الفقيرة في المهجر، ممثلًا الجيل الجديد من أبناء الضواحي الفرنسية القادمين من أفريقيا

وتلخّص الأغنية الوضع السياسي الذي تعيشه البلاد، كما تساند الحراك الشعبي ضد النظام الحاكم، ليؤكّد سولكينغ مجدّدًا تمسكه بالقضايا الاجتماعية التي تمسّ شريحة كبيرة من الشباب الجزائري المتطلع لحياة أفضل، وإن فضّل هو أن يعيش حياة "القراصنة" بعيدًا عن الملاحقات القضائية، والتي قد تُبعده عن تحقيق أحلامه تمامًا كما في أفلام الأنمي الياباني.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحكواتي محمد طالبي.. "جدّي المخفي" الحافظ للتراث الشفوي الجزائري

رحيل رشيد طه.. راح المسافر وبقي صخبه الهجين