23-يناير-2020

الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون (تصوير: بلال بن سالم/Getty)

عادت بي ذاكرتي إلى نادي (مقهى) الصحافيين بدار الصحافة الطاهر جاووت، بساحة أول ماي بالجزائر العاصمة. مكانٌ يدخل إليه أصحاب الحظّ العظيم، في فضاء اختير له أن يكون في زاوية بعيدة عن مدخل الدّار، يُمكن للصحافي أن يخط فيه عشرات المقالات، ويدوِّن عنه عشرات القصص النابضة بالحياة، كثيرة هي الأسماء التي مرّت عليه ولازالت، تصدّرت مقالاتها عدّة صحف جزائرية، إنه الملتقى صباحًا والمنتهى مساء.

الظاهر أنّ الحوارات والنقاشات المهمّة، ليست تلك التي تدور حولها الأسئلة في الندوات الصحافية

عندما تفيض قاعات التحرير بالتعب المهني، تُنقل النقاشات الجانبية إلى ذلك الفضاء في "قُصرة"، لكن بأعلى مستوى. سيّدها فنجان قهوة أو"ساندويتش"، يمكن اقتسامه في لحظات احتدام الرأي والرأي الآخر، في عزّ الأزمة الأمنية والسياسية التي عصفت بالبلاد، وفي عزّ اقتسام الرّيع زمن الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.

اقرأ/ي أيضًا: الصحافة الساخرة في الجزائر.. "تجارب بيضاء" و"مصائر سوداء"

الظاهر أنّ الحوارات والنقاشات المهمّة، ليست تلك التي تدور حولها الأسئلة في الندوات الصحافية، بل هي ما يجتمع عليه الصحافيون من مختلف وسائل الإعلام في ذلك النادي، أو ما يطلق عليه إعلاميًا "الهوامش الإخبارية"، حيث يُمكن التطرّق إلى ما لا يُمكن تناوله أو قوله في "القاعات المغلقة"، وما لا يمكن نشره في الصحيفة بفعل مقصّ الرقيب، والمحاذير الاخلاقية والمهنية والسياسية والاقتصادية أيضًا، تارة أخرى.

نادي "الساندويتشات" هو محطّة عبور، يُلقي فيه الصحافيون حِملهم الثّقيل، المثخن بآلام المواطنين. المُشكَّل من هوامش الأخبار التي سقطت أو أُسقِطت من أجندة رئيس التحرير، وهوامش حياتية وإنسانية من زبدة التجربة اليومية، فكلّ يوم تزور فيه النادي، يزداد معه الرصيد المهني بعيدًا عن اتساع الرصيد الصحافي، فما يشاهده ويسمعه الصحافي في الشوارع والجبال، ومن أوجاع الناس، - طبعا هنا أتحدث عن الأزمة الأمنية-، هي الهوامش الحقيقة.

غير أنّ ما تنشره الصحف هو ذلك الجزء البسيط من كلّ الحقيقة. جزءٌ تتعامل معه إدارة التحرير بنظرية إعلامية خطيرة هي "تأطير الأخبار"، أساسها تقليم الأخبار والمعلومات من الشوائب التي تشوّه منظر المعلومة، وتعكّر دوران عجلة طبع الصحيفة، وتمسح عنها الزوائد التي تضرّ بواجهتها أمام السلطة.

في ذلك النادي البسيط، سلعته الأساسية، "الساندويتشات". لها رائحة وطعم مازال في الذاكرة، فذاكرة الصحافي لا تنس تعب السنوات، فكيف تنسى صديقها الحميم الذي سار معه في السراء والضراء، فالظفر به كمن انتظر طويلًا ليحصل على وظيفة.

لم نكن نعرف معنى مطعم "وود بيكير"، أو مطاعم راقية بأحياء حيدرة أو دالي ابراهيم. وقتها كانت اللقاءات لا تستثني المسؤول والصحافي. الجميع يلتقي في ذلك المكان، فالبساطة هي قمة اللذّة.

في ذلك النادي البسيط، تعلّمنا أن "ورق البيفتاك" صالح لكل شيء؛ للكتابة، لتغليق "الساندويتشات"، وتنظيف الطاولات من الأتربة والغبار، وما أقدسه ذلك الورق الذي يلفّ كتاباتنا مثلما يلفّ صاحب النادي "ساندويتش" بطاطا مقلية بقليل من البيض، كأكلة توهب للجميع، بينما الهريسة لمن استطاع.

للمِزاج: في ذلك المقهى فنجان القهوة بـ 10 دنانير جزائرية، ترتشفه وعقلك يفكّر في بداية التقرير الذي ستكتبه، بعد عودتك من تغطية حدث ما، في المقابل، هناك من يرتشف القهوة على عجل ليتملّص من المساءلة "واش جبت من سكووب".

يوجد في النهر ما لا يوجد في البحر في ذلك المقهى/النّادي/الفضاء الإعلامي، تختلط الأصوات واللهجات، تتصارع الأفكار، والأحداث وتوقّعات الغد، هناك يستطيع أن يعثُر الصحافي على عنوان لمقاله، أو ّ مدخل لتقريره أو حتى مجموعة الأسئلة التي سيطرحها في الندوة الصحافية التي سيغطيها، لأنّه يفكّر بروح الجماعة أو يفكّر بصوتٍ عالٍ، في فضاء مفتوحٍ بعيدٍ عن قيود السّكون في قاعات التحرير، أو مِطرقة رئيس القسم أو رئيس التحرير.

الهرب من الضغط: في ذلك المقهى يتنقل الصحافيون من القاعات المغلقة إلى الفضاء المفتوح، وكثيرًا ما يعثر رئيس التحرير على العناوين الكبرى وعنوان "المانشيت" وهو يمسح طاولته لشرب القهوة، في المقابل يخشى الصحافي أن تلتقي عينه بعين مسئوله أو مدير الصحيفة التي يشتغل فيها، فالتهمة واضحة: "خليتوا الخدمة وجيتو تهدروا".

شخصيًا: مكّنني حديث الرئيس عبد المجيد تبون عن حرّية التعبير، وحديثه عن "نادي الصحافيين" و"الساندويتشات"، من سرد القليل من التفاصيل البسيطة، المخزّنة في الذاكرة الإعلامية للصحافية الساكنة بداخلي، مثلها مثل العشرات من الصحافيين الذين مرّوا مرور الكرام على دار الصحافة العريقة، التي سكنتها اليوم أرواح من كانوا يحرِثون في أعماق المِهنة. كثيرون ممن تطلعوا إلى تحسين أخلاقيات ممارستها، في التسعينيات، ممن سكنهم الخوف من الاغتيال ولكنهم أكملوا المسير.

مهنيًا: أرجعني حديث الرئيس إلى اللحظة التي نطق بها الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة ووصف الصحافيين بـ "طيابات الحمام"، كلمة صارت عنوان علاقته بصاحبة الجلالة. كلمات أغاضت كثيرين رغم أنها مهنة شريفة تمنع الذلّ ومدّ اليد، في زمن صار فيه الصحافي يرى أن "الكاس- كروت"، يجلب التهكّم، غير أنه يحمل بين حروفه، فكرة مبطنة لرئيس الجمهورية عن واقع السلطة الرابعة.

في المهنة تعلمنا أن "السّرعة لا تعني الاحترافية" و" التسرّع بإمكانه أن يخدع المصداقية" و" الشّكل قد يتعسّف على المضمون"، هذا هو حال "الكاسكروت"، تأكله على عجل وتنسى معه لذّة الأكل. كما تضيع التفاصيل المهمة في كلمات الأخبار المتسارعة.

الظاهر أنّ الحوارات والنقاشات المهمّة، ليست تلك التي تدور حولها الأسئلة في الندوات الصحافية

اجتماعيًا: سيادة الرئيس، كثيرون لم تغرهم أطباق الصالونات المغلقة، ولا نوادي المؤتمرات، لكن أغراهم ذلك "السّاندويتش" البسيط، الذي ارتبط بجهد المهنيين للتأسيس لِمِهنة تحفظ الكرامة، وتمنع المذلّة، فالثراء ليس هدف الصحافة كمهنة إبداع وصناعة رأي عام، فمتى تُصبِح للإعلام قوانين تنظِّم المهنة، وتشغله بعرض القضايا العادلة، ورفع أسهم المواطن والبلد؟ ومتى نفكّر في أن يكون الإعلام سلطة مستقلّة، بدل الإِلهاء بـالـ "ساندويتشات"؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

حرّية الصحافة في الجزائر.. ضحك على الذقون

كُلْفَة الصحافة في الجزائر.. سنوات من الخوف والموت والمقاومة