18-مايو-2018

يتعامل الجزائريون مع رمضان وكأنه إنسان، فيقولون: "سيدنا رمضان" (رويترز)

في مناطق جزائرية كثيرة، خاصّة في الأرياف، يتسامح النّاس مع ترك الصّلاة والزّكاة والحجّ، وهي من المعلوم من الدّين بالضّرورة في الأدبيات الإسلامية، لكنّهم لا يتسامحون مع ترك صيام شهر رمضان. يقول مكّي شيهب البالغ من العمر 90 عامًا، إنّهم يرون صيام رمضان من تمام الرّجولة: "وقد يصل الأمر إلى عدم التّعامل مع منتهكه، فلا نزوّجه ولا نتزوّج منه"، كما قال.

في الجزائر قد يتسامح الناس مع ترك الصلاة لكنهم لن يتسامحوا مع ترك صيام رمضان، فهم ينظرون إليه باعتباره من "تمام الرجولة"

من هنا، يضيف شهيب لـ"ألترا صوت": "نحتفل بأوّل صيام يقوم به الطّفل، لأنّنا نعتبر ذلك إشارةً على بلوغه سنّ الرّجولة واستعداده لتحمّل المسؤوليات"، مشيرًا إلى أنّ بعض طقوس الاحتفال، تعمل على تحضيره لذلك، منها "تشجيعه على ذبح دجاجة أو ديك، حتّى يتخلّص من الخوف، والصّعود إلى قرميد البيت، حتى يكون أعلى من في البيت، فيباركه سيّدنا رمضان".

ليس غريبًا في الوسط الجزائريّ أن يتمّ تسييد شهر رمضان، فيُقال مثلًا: "جاء سيّدنا رمضان"، و"مات سيّدنا رمضان" كنايةً عن انقضائه، و"ربّي يرحم سيّدنا رمضان"، و"يسالني سيدنا رمضان" أي يدين لي، بما يعطي انطباعًا أنّه يُعامل كما لو كان إنسانًا يقوم بالمتعارف عليه من الأفعال الإنسانية من مجيء وذهاب وموت.

عادةً ما تنطلي الحيلة على الأطفال الصّغار، فيعتقدون كون شهر رمضان إنسانًا بالفعل، وليس مجرد شهر مقدس، وينتظرونه على هذا الأساس. ويُعزّز هذا الاعتقاد لديهم أنّ كثيرين من معارفهم يحملون اسمه، إذ يُطلق الجزائريون أسماء شعبان ورمضان والعيد على صغارهم، تيمّنًا بهذه المناسبات الدّينية.

يقول الطّالب الجامعي أسامة حتوت لـ"ألترا صوت"، إنّه كان في طفولته يسمع أسرته تتحدّث عن شهر رمضان بنبرة مؤنسنة، "فاستقرّ في ذهني أنّه رجل من لحم ودم، ورسمت له صورةً معيّنةً هي كونه شيخًا وقورًا ذا لحية وهندام أبيضين. طيّب، لكنه يُعاقب من يأكل ويشرب خلال النّهار"، مضيفًا: "يعتقد بعض أقاربي أنّني شرعت في الصّيام مبكّرًا لأنّني الولد البكْر لأبي وفعلت ذلك تأثّرًا به، بينما فعلت ذلك خوفًا من أن يُعاقبني الشّيخ الطيّب الذي اسمه رمضان!".

منذ فترة الاستعمار تعامل الجزائريون مع رمضان بصفة مميزة كأحد أساليب المقاومة بالتمسك بالهوية الوطنية في وجه هوية المُستعمر

في جولة قُمت بها في بعض أحياء مدينة المهير، الواقعة على بعد 200 كيلومتر إلى الشّرق من الجزائر العاصمة، لمستُ هذه الرّوح الطفولية لدى بعض الأطفال في نظرتهم إلى شهر رمضان، فهم يعتقدون كونه إنسانًا.

سألناهم عن خلفية تلك النظرة، فأدركنا أنّها ثمرة لما عاينوه من أنسنة أهلهم للشّهر. قال الطّفل أمين جريبات (ثمانية أعوام)، إنّ أمّه قالت إنّه "من العيب أن تستقبل سيّدنا رمضان من غير أن تدهن جدران البيت، وتغيّر الأواني الفخّارية، وتُعدّ ما تقتضيه المأكولات والأشربة الخاصّة به". لقد فهم الطفل أمين، رغم سنّه التي تؤهّل صاحبها لأن يفهم الأمور على أصولها، أنّ هذه الطقوس لا تليق إلا باستقبال ضيف عزيز.

طلب "ألترا صوت" تفسيرًا من الباحث في التصوّف سعيد جاب الخير لهذه الظّاهرة الجزائرية في التعامل مع الرّكن الرّابع في الإسلام، فقال إنّ جذور الظاهرة تعود إلى الفترة الاستعمارية، التي بدأت عام 1830، "حيث قامت الإدارة الفرنسية بمحاولات عديدة لتذويب الهوّية الجزائرية في الهوّية الفرنسية، ممّا خلق نفورًا عفويًا لدى الجزائريين، الذين خلقوا أشكالًا من المقاومة الثّقافية إلى جانب المقاومة المسلّحة".

من أشكال تلك المقاومة الثّقافية، وفقًا لجاب الخير، "التواطؤ العام على جعل شهر رمضان محطّة لتمييز الجزائري بصومه عن المسيحي الفرنسي الذي لا يصوم"، ومن هنا كان الحرص على تقديس الصوم أكبر من الحرص على تقديس الشعائر الأخرى، ولذا، وكما يقول جاب الخير، بات الجزائريون يعتبرون انتهاك الصيام "انتهاكًا للهوّية الوطنيّة في صراعها مع الهوّية المسيحيّة الغازية، فيؤدّي ذلك الانتهاك بصاحبه إلى عزله عن الجماعة ومقاطعته".

ظل التدين الجزائري ذا نزعة صوفية، وما أنسنة شهر رمضان إلا واحدة من تجليات الثقافة الصوفية في المخيال الشعبي الجزائري

في السّياق نفسه، يشير أستاذ الفلسفة أسامة قصوري لـ"ألترا صوت" إلى أنّ التديّن الجزائريّ ظلّ تاريخيًا ذا نزعة صوفية، وهو المعطى الذي يمنح للطقس الدّينيّ بُعدًا اجتماعيًا، "فيلتحق البعد الاجتماعي بقداسة البعد الدّيني، وما أنسنة شهر رمضان إلا واحدة من تجلّيات الثّقافة الصّوفية في المخيال الشّعبي الجزائري"، أو كما قال.