21-يونيو-2019

إميل ميشيل سيوران (1911-1995) كاتب فرنسي ولد في رومانيا (Getty)

شذرة واحدة لإميل سيوران ( المياه كلها بلون الغرق، اعترافات ولعنات، مثالب الولادة...إلخ) تُلغي الصخب الذي يثيره بعض الثرثارين. يعيد سيوران توزيع مساحات الكلام والصمت في الأدب، إنّه يقف إلى جهة الصمت. الكتابة/ الشعر/ الأدب تنتمي هذه الكلمات إلى شعرية الصمت. قراءة سيوران هي مضاد حيوي ضد الثرثرات الأدبية. ما الحاجة إلى ركام من الكلمات إذا كان يمكن التعبير عن الجوهر دون هدر للغة؟ يكتب سيوران شذرات يصعب تصنيفها، أو ربّما هي أصلًا تعارض ها التصنيف.

إنّ الأديب الدجّال، عند سيوران، هو الذي يتنكّر لأدبه، فيُقحم الأفكارَ الفلسفية في نصوصه الأدبية

لماذا كتابة الشذرات؟ سؤال طرحه فيلسوف شاب لسيوران، فردّ عليه هذا الأخير: بسبب الكسل، الاستهتار، القرف. كأنّه لم تعد هناك حاجة إلى كتابة الخطابات الطويلة، في عالم مُقرف. حين نقرأ شذراته، نُدرك حالة السأم التي، في أحيان كثيرة، بلغت درجة من العدمية، وفقدان الثقة في أيّ شيء.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "بلزاك والخياطة الصينية الصغيرة".. قدرة الأدب على تغيير مصائر الناس

إنّ الأديب الدجّال، عند سيوران، هو الذي يتنكّر لأدبه، فيُقحم الأفكارَ الفلسفية في نصوصه الأدبية. فاللجوء إلى الفلسفة ينمّ، عند المبدع، عن نقصٍ فادحٍ. نفهم بأنّ الأدبَ غير الفلسفة، كلّ في مجاله الخاص، وينبغي الحرص على عدم تداخل المجالين.

إذا أردتَ أن تشتمَ سيوران فحاول أن تقتبس إحدى نصوصه. هكذا كتب أو لمّح في إحدى شذراته. في هذه الحالة، تتخلّل عملية الكتابة عنه مزالق كثيرة، منها: كيف يُمكن الكتابة عنه دون أن يشعر أننا نشتمه؟ رفض سيوران الاقتباسَ من كتاباته، فكلّ اقتباس يعتبره تشويهًا أو خيانة له. كأنّه يطالب من القارئ الاكتفاء بقراءة نصوصه، وعدم إخراجها من سياقاتها الأصلية.

يؤمن سيوران بالفكر الأصيل، أي الذي يُنتج أفكاره من وحي علاقته المباشرة بالعالم وأزماته. لا يُناصر سيوران ذلك الصنف من المفكّرين الذين تحتشد في كتاباتهم الاقتباسات الكثيرة. تتحول كتاباتهم إلى مقابر، شواهدها هي تلك الاقتباسات.

يؤمن سيوران بالفكر الأصيل، أي الذي يُنتج أفكاره من وحي علاقته المباشرة بالعالم وأزماته

ماذا لو أسقطنا هذه الوصية على فكرنا العربي؟ فما الذي سيبقى فوق غربال سيوران؟ ما هو مؤكّد أنّه لن يبقى إلا نفرٌ قليل من المفكّرين العرب، يُعدّون على أصابع اليد الواحدة. لكن، من حقّنا أن نطرح سؤالًا: هل الاقتباس خطر على الفكر، في ذاته أم الخطر في الإفراط فيه؟ أليس الاقتباس هو دليل القراءة والانخراط في حركة الفكر من خلال ما يُؤلّف؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

قصص "أخبار الرازي".. هل يحكم الجنون العالم؟!

كتاب "العنف الاجتماعي في الجزائر".. قراءة في الغضب المتراكم والبؤس الثقافي