"طيّاب الأوراس".. كفاحٌ بطعم الخبز والخير على كرسي متحرك
5 مارس 2025
كل ظهيرة، يشقّ عبد الكريم شافعي، 28 سنة، طريقه على كرسيه المُتحرّك من حي سلسبيل إلى موقف "باركافوراج" المُقابل لبلدية الزمالة بباتنة (شرق). تسبقه زوجته، ذات الثلاثين ربيعًا، إلى مقر عمله الصغير جوار محطة الحافلات.
"طيّاب الأوراس" انطلق عندما قرّر عبد الكريم شافعي بيع كرسيه الكهربائي من أجل كراء مسكن وإطلاق مشروع الطبخ رفقة زوجته بوسط باتنة
على الرصيف تنشر له طاولة متواضعة، وترصف عليها المطلوع، الحميص، والبوراك، قبل أن تعود إلى المنزل، تاركةً إياه يخوض من فوق آلته الكهربائية معركته اليومية لكسب قوت يومه.
في رمضان، يعود عبد الكريم إلى مكانه ليواصل ما بدأه، قبل أسابيع مُحاطًا بتعاطف الناس الذين يقبلون على شراء المطلوع بـ 50 دينارًا، الحميص بـ 100 دينار، والبوراك بـ 50 دينارًا. لا يتذمّر ولا يشكو، رغم معاناته من مرض الاعتلال العضلي "ميوباثي" الذي أصابه منذ الصغر.
يرفض هذا الشاب نصف المقعد، الاستسلام أو البحث عن وسيلة أسهل لكسب القوت، ويقول بابتسامة ثابتة لـ "الترا جزائر": "فكرتُ وزوجتي في طريقة تُعِيلنا معًا، فوجدنا أن بيع شيء للناس هو الأنسب لنا، فاليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى. بعد شهور من استئجار منزل في عاصمة الأوراس، وجدنا التوليفة المناسبة؛ هي تطهو وأنا أتولّى البيع. من يُريد مساعدتنا، فليشترِ منا، فهذا أفضل من انتظار الصدقة أو المال السهل".
تضحية البدايات
ينحدر عبد الكريم من مشتة شعبة الصيد في بلدية تالخمت، دائرة رأس العيون غرب ولاية باتنة، شرقي الجزائر، ولذا كان القرار الأول له ولزوجته هو الهجرة الداخلية بحثًا عن سوق نابضة بالحياة، بعدما أدركا أن الحركة التجارية في قريتهما شبه منعدمة، لا بل مستحيلة، لكن الانتقال لم يكن سهلًا، فالمعضلة الكبرى كانت إيجاد سكن مؤجر.
يقول عبد الكريم إنّه "لم يكن لدينا مالٌ، فاضطررتُ إلى بيع الكرسي الكهربائي المتحرك خاصتي. كان سعره هو ثلاثمائة ألف دينار جزائري، أي ثلا ثون مليون سنتيم، لكني تخليت عنه تحت الحاجة بمبلغ زهيد لا يتعدى، تسعين ألف دينار، أي تسعة ملايين سنتيم، فقط لأوفر رأسمالًا يساعدنا على الإيجار. عدتُ إلى استخدام كرسيّ القديم بعد إصلاحه. عندما تريد أن تبدأ مشروعًا، عليك أن تضحي بجزء منك من أجل تحقيق كلك. والإعاقة الحقيقية ليست في ضعف البدن بل في كساح الإرادة والاستسلام قبل محاولة تغيير المصير".
كل صباح، يستيقظ عبد الكريم مبكرًا، يذهب إلى السوق ليشتري المواد الأولية، ثم يحملها إلى زوجته، التي تعكف على إعداد المطلوع، الحميص، والبوراك.
وفي هذا الصدد يقول، بابتسامة يملؤها الرضا: "أنهض باكرًا، أشتري ما يلزم من السوق، وأحمله لزوجتي التي تعكف على إعداد المطلوع والحميص والبوراك. تلاحظ أن سعر المطلوع أرخص بنحو النصف؛ لا نربح فيه شيئًا، نبيعه برأس ماله أملًا في جذب الزبائن، خاصة في أيام الشهر الفضيل، حيث لا تحلو شربة الفريك دون كسرة تقليدية. لكننا نعوض ذلك مما نجنيه من البوراك والحميص. هذه طريقتنا في تسويق المنتجات والتعريف بأنفسنا لدى الناس، وقد اخترت هذا المكان الذي يعجّ بالركاب، والحمد لله، تسير الأمور بشكل مقبول".
اقرأ/ي أيضًا:
مطعم ماما لويزة.. طاهية الأسماك وعرّابة كورنيش سطورة
كويكلي.. مهرّجٌ عاد من الموت ليصنع بهجة العيد
تكافل شعبي
وبينما كان يتحدث، جاءته طلبية عبر الهاتف الذي لا يتوقف عن الرنين. واصل حديثه لـ "الترا جزائر" قائلًا: "طلب مني هذا الشخص حميصًا وسأوصله إلى بيته هذا المساء بعد عودتي. أيضًا، لدي 33 طلبية وجبة أوزعها على الفقراء من أموال المحسنين. أما من حيث المصاريف والدخل، فيكلفني ثمن حصة البوراك 600 دينار، وأبيعها بـ 1500 دينار، ما يسمح لي بربح يتراوح بين 600 و700 دينار. وهذا خير كاف، إذا أضيف له مدخول الحميص".
يسترجع تفاصيل إصابته بمرض عضلي بدأ في عمر الثلاث سنوات، مما أدى إلى شلل جزئي يصعّب عليه حتى فتح يديه ورد فكة النقود للزبائن. لكنه لم يستسلم، بل صنع من ضعفه قوة ومن معاناته أملًا للآخرين.
تمرّ سيدة رفقة أولادها، فتقترب من طاولته، وتمنحه 200 دينار مقابل أربع كسرات مطلوع. وقبل أن يلفها، تهمس في أذنه: "دفعت لك ثمنها على أن تمنحها لأربعة فقراء أو عائلة محتاجة." فيلتفت إلى "الترا جزائر" موضحًا: "أرأيت؟ لدينا أيضًا خدمة مساعدة الناس بالمعُونات التي يقدمها لنا المحسنون. وقد بدأنا ذلك منذ أسابيع، وبتنا نتلقى كثيرًا من الاتصالات حتى من ولايات مجاورة لباتنة. ولتثمين هذا العمل، قررتُ وزوجتي استثماره في كسب الرزق الحلال وفعل الخير، خاصة أننا نستخدم وسائل التواصل الاجتماعي للتعريف بمشروعنا".
في الأوساط الشعبية، يُعرف عبد الكريم بلقب "طيّاب الأوراس". أنشأ مع زوجته صفحات على فيسبوك وإنستغرام وتيك توك لمرافقة مشروعهما الذي يقوم على هذه العبارة " إذا أردت مساعدتنا فاشتر منا"، وهذه لم تكن مجرد شعار تجاري، بل كانت فلسفة حياة، لذلك يحظيان باحترام وتضامن الناس.
قضاء الكفّارات
أما عن الجانب الخيري من عملهما، فيضيف الرجل أنّه "نحوّل تبرعات المحسنين إلى وجبات طعام للفقراء، وقد بدأنا ذلك بمبادرة بسيطة عندما أرسلت لنا سيدة عبر "بريدي موب" مبلغ 1550 دينارًا جزائريًا، وطلبت منا تقديمه طعامًا للمحتاجين. اشترينا الخضار واللحم، وأعدّت زوجتي عدة وجبات وزّعت على الفقراء. وما إن نشرنا تفاصيل المبادرة حتى انهالت علينا طلبات أخرى من رجال ونساء يرغبون في التصدق عبرنا، فيقومون بصب المبالغ في حسابنا البريدي، لنتولى نحن طهي الوجبات وتسليمها للمحتاجين".
أما الفئات التي تستفيد من هذه الخدمة، فيوضح عبد الكريم، أنّهم "الناس الذين يطلبون هذه الخدمة كُثر: بعضهم متصدقون عاديون، ومنهم من يفطر بعذر كالحوامل والمرضى والمسافرين الذين يلزمهم قضاء الأيام أو دفع كفارة إطعام المساكين. وهناك أيضًا من يرغبون في التكفير عن الحلفان دون الوفاء بالقسم".
وعن آلية حساب مدخوله، يضيف: نحن نوفق بين الأجر والأجرة، خاصة في هذه الأيام الرمضانية الروحانية. نحسب نسبة محددة من كل وجبة كثمن لتعبنا، ونتولى توصيل الطلبيات يدًا بيد أو عبر خدمة التوصيل بالتنسيق مع بعض مقدّميها. وطبعًا، نحن لا نصوّر الفقراء، فكرامة الناس فوق كل اعتبار، وكل شيء يتم بسرية تامة".
واللافت في هذه المسألة كما يوضح: " هي تلك الثقة التي اكتسبتها أنا وزوجتي لدى أناس لا نعرفهم فيرسلون لنا أموالا كي نتولى نحن صرفها لإعداد معونات غذائية للفقراء والمحتاجين، بل يستأمنونك في قضاء كفاراتهم، وطبعا ما يخلفه هذا الشعور في المرء من طاقة إيجابية، أمر يفوق كل ما تحققه من أرباح، إذ يبدو أن الفوز بقلوب الناس هو الفوز الكبير".
اقرأ/ي أيضًا:
أصل تسميتها وبنّتها.. "الشوربة" عروس أطباق رمضان في الجزائر
الشوربة.. طبق لا يغيب عن موائد الجزائريين في رمضان
شراكة زوجية
يتعاطف كثير من الزبائن مع قصة كفاح هذين الزوجين، اللذين يعملان أيضًا في تحضير الولائم الجماعية وإعداد وجبات لمائة أو مائتي شخص. لكن عبد الكريم يعترف لزوجته، التي ستلتحق به مساءً بعد نفاد معظم البضائع، بأنها أصل كل شيء في هذه القصة، قائلًا: "ليس لي سوى الله في السماء، وزوجتي فوق الأرض. فهي كل شيء في حياتي، تحملت مرضي وإعاقتي بصبر وأناة، وهي التي تطبخ وتعد كل شيء، فيما لا أقوم أنا سوى بالجلوس خلف الطاولة لأبيع".
داعبته: "أنت تتلقى الأموال فقط!" فانفجر ضاحكًا موافقًا، ثم همس: "زوجتي هي أساس المشروع، قواعده وجدره وسقفه، وما أنا غير بوّاب أو الواقف على بابه".
ومع اقتراب نهاية اليوم، وصلت زوجته لجمع الطاولة والأكياس، وعندما أخبرتها بالإطراء الذي خصّها به زوجها، ابتسمت في خجل وقالت هامسة: "الحمد لله، بلا مزية مني. صحيح أنني أكبره بعامين، لكن لا مشكلة في ذلك، لا من حيث السن ولا من حيث تقاسم الواجبات. الحياة محطة، وعلينا أن نتعايش مع جميع حالاتها. فقط علينا العمل والجد والتوكل على الله، على أمل أن تتحسن أوضاعنا مستقبلاً".
يطمح ثنائي "طيّاب الأوراس" عبد الكريم وزوجته إلى فتح محلٍّ لبيع المأكولات التقليدية والحلويات
تحلم هذه المرأة، التي توقفت دراستها عند مستوى البكالوريا، بتطوير مشروعها مع زوجها، فتقول: "تعلمت الطهي منذ الصغر في بسكرة، وطموحي أن أوصل "الشخشوخة البسكرية" إلى العالمية، وأن نفتح مطعمًا صغيرًا لبيع منتجاتنا."
أما عبد الكريم، الذي يتقاضى منحة اجتماعية قدرها 12,000 دينار جزائري شهريًا، فيفكر في تطوير مشروعه قائلًا: "نفكر في بيع الحلويات إلى جانب المطلوع والحميص والبوراك، علّها تكون لنا فألًا طيبًا في هذا الشهر المبارك".
الكلمات المفتاحية

المحاضرات الجامعية بين المقاعِد والشاشات .. أيّ تعليم نُريد؟
عرفت الأوساط الجامعية نقاشًا محتدمًا خلال الأيام الأخيرة، حول التحوّل المُتزايد نحو التعليم عن بُعد. فبينما يُمثّل هذا النّمط التعليمي أداة قوية لتوسيع نطاق الوصول إلى المعرفة وتجاوز الحواجز الجغرافية والزمنية، يبرز تساؤل ملحّ حول الأثر العميق لغياب المحاضرات الحضورية على التجربة التعليمية لكل من الطلاب والأساتذة.

غار أُوكَرْمِيشْ.. مجزرة بالغاز ضد جرحى جيش التحرير في بطن الجبل
بالتوازي مع انطلاق مشروع خط شال الجهنمي الذي نفذته السلطات الاستعمارية بهدف عزل الثورة خارجيا، عمد الجيش الفرنسي إلى تجفيف منابع الثورة غرب الأوراس شرقي الجزائر، لخنقها داخليا، بارتكاب مجاز دموية العام 1959، وبأسلحة محرمة دوليا، بدأت بغار أوشطوح مرورا بجبل السور، ثم إيفري نثمغار، لتدوّن بجريمة مدوية استهدفت مع سبق الإصرار والترصد جرحى ونزلاء مستوصف جنود جيش التحرير في غار أو كرميش في بلدية حيدوسة…

ربيع الفول في الجزائر.. مُتعة المذاق وحسابات غذائية صحية
مع فصل الربيع؛ يستقبِل الجزائريون طبق الفُول بحفاوة، فهو يتربّع على الموائد كأهمّ مٌكوّنات الأطباق التقليدية الشهية، إذ يجمع بين لذّة المذاق وفوائد غذائية، فماهي أبرز العناصر التي تجعل الفُول مُفيداً للصحة؟

طقس الجزائر.. أمطار ورياح عاتية عبر 13 ولاية
حذّر الديوان الوطني للأرصاد الجوية، اليوم الاثنين، من تساقط أمطار رعدية غزيرة ورياح قوية على عدّة ولايات من الوطن.

رغم الفوز.. شباب قسنطينة يغادر كأس "كاف" من الدور نصف النهائي
أقصي شباب قسنطينة في الدور نصف النهائي لكأس الكونفدرالية الأفريقية لكرة القدم، رغم فوزه يوم الأحد، في مباراة الإياب أمام نهضة بركان بنتيجة 1-0 ، بملعب الشهيد حملاوي بقسنطينة.

أول مشاركة لأبناء الجالية في مسابقة وطنية تربوية
كشف كاتب الدولة المكلف بالجالية الوطنية بالخارج، سفيان شايب، عن مشاركة متميزة لأبناء الجالية الجزائرية بالخارج في أول مسابقة مدرسية من نوعها ينظمها المجلس الشعبي الوطني بالتنسيق مع وزارة التربية الوطنية.

إدراج كلمة جزائرية في قاموس لاروس الفرنسي الشهير
أدرجت دار النشر الفرنسية الشهيرة "لاروس"، الكلمة الجزائرية "كراكو" (Karakou) ضمن الطبعة الجديدة من قاموسها الشهير، المرتقب صدوره في 21 أيار/ماي 2025، وذلك ضمن قائمة تضم 150 مفردة جديدة.