09-أغسطس-2022

حي القصبة بالجزائر العاصمة (تصوير: جون بيان بروفال/أ.ف.ب)

شَهدت مدينة القصبة خلال سنوات الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي، انتشار الجريمة المنظمة وانتشار عصابات الشوارع، وتأسست مجموعات من الأفراد تعمل على السيطرة على أحياء شعبية وتُمارس أنشطة غير قانونية، حيث كان نشاطها الإجرامي كان السطو وتجارة المخدرات وتهريب الكحول والسجائر، ويَنتظم أعضاء العصابة على ممارسة سلوكيات معادية للتقليد المجتمع، كالابتزاز وحماية نشاط البغاء وتجارة الجسد وتدمير الممتلكات والضرب والقتل وحرب العصابات.

سطع نجم الإخوة بلطرش في حي القصبة بعد سطوهم على مطعم "Drap D’or" الواقع بشارع باب عزو ن بالعاصمة 

غالبًا ما كانت تتشكل تلك العصابات على أُسس عائلية، أو من مجموعة من الأفراد تتبادل الأدوار والمصالح وتتقاسم الغنائم، وقد تسيطر عصابة على كامل الأحياء على طريقة عصابات شيكاغو الأميركية، وتخضع باقي العصابات الصغيرة إلى سَطوتها وتوفر لها الحماية والتغطية.

تَعمدت سياسية التجهيل والتجويع، وإفقار الأفراد والعائلات الممنهجة من طرف الإدارة الاستعمارية على تشريد المجتمع الجزائري، إذ تفككت كل الروابط الأسرية والعائلية، نتيجة الاقصاء والفقر والتهميش وسلب الكرامة، وطمس معالم الشخصية الوطنية، والعنف الممارس من طرف الاستيطان الفرنسي، إذ بات الشعب الجزائري يتيمًاوتائهًا ويائسًا، مبثورًا من كل سلطة روحية وقيادة سياسية ترشده إلى الطريق.

تشجيع الشرطة الفرنسية

في السياق ذاته، ساعدت السلطات الاستعمارية على نشر الدعارة وأعمال العنف واستهلك المخدرات والكحول وأشكال القمار وسط سكان أحياء القصبة الفقيرة والمزدحمة بالسكان، في إطار تجسيد سياسة الاستيطان القائمة على التمييز العنصري واستئصال روح المقاومة الشعبية ومحو مقومات الشخصية الجزائرية والإعلاء من شأن العنصر الأوروبي البيض.

الاستعمار الفرنسي يوقف جزائريين بالعاصمة

وفي غمرة انتشار العصابات داخل أحياء القصبة، شَجعت الشرطة الفرنسية تلك الجماعات، ووفرت لها الحماية والتغطية، وتغاضت عن أنشطها غير القانونية، مادام أن الإجرام والفوضى لن تتعد وتتجاوز حدود الأحياء العربية (القصبة)، ولن تطال المدينة الأوروبية، وأن اقتتال بين العصابات سيذهب ضحيته جزائريون فقط.

وعلى ضوء ذلك، سادت في أحياء القصبة الفوضى وفُرض قانون الأقوى في ذلك الوقت، وهو الوضع الذي قَوَض وأرهق من نشاط الحركة الوطنية الاستقلالية، وأثقل أعباء إسهامات الحركة الإصلاحية في التعليم والتربية والإصلاح الاجتماعي والأخلاقي.

الثورة والمنعرج

بيد أن اندلاع الثورة كان له انعكاس ثانٍ على الأحياء الشعبية، ومنعرجًا حاسمًا في تاريخ تلك العصابات، فمنذ نهاية المقاومات الشعبية ورحيل قادتها، تَجَلَت على الساحة قوة سياسية وعسكرية وأيديولوجية كممثل شرعي ومرشد روحي للشعب الجزائري، مُمَثلة في جبهة التحرير الوطني، أعادت صياغة الأفكار، وقامت بعملية تطهير وتصفية القصبة من الجرائم والاعتداءات، وأمدت سكان القصبة بنفس جديد أعاد الأمل إلى الحياة، إذ فجأة انقلب بعض أفراد العصابات إلى ثوار وفدائيين، أما من رفض الامتثال إلى "النظام" وأصر على العمالة فكان مصيره الإعدام.

فمن هي أبرز عصابات أحياء القصبة، وما هي نشاطاتها، وكيف تشكلت وما هو مسار تحولها؟

في حي القصبة بالعاصمة

الإخوة حميش

أكبر الإخوة هو مصطفى حميش، من مواليد 1917، كان طويل القمة، أشقر الهيئة، قوي البنية، شديد البأس، كان عدوانيًا ومصارعًا بارعًا استطاع أن يفرض قوته ووجوده بالقوة والحديد، في سجله القضائي مارس السمسرة، والعديد من الاعتداءات والضرب والسرقة.

شكل مصطفى رفقة أخويه علي وعبد الرحمان المكنى "موح الروجي"، ثلاثي عصابة  سيطرت على شارعي روندوا وشارترس بالقصبة، وعُرف عن العصابة ابتزاز مالكي تُجار الجسد وأصحاب مقاهي ألعاب القمار وورق الحظ، واستطاع الإخوة حميش من ربط علاقات بزنسة مع الأوروبيين، بفضل المتاجرة بمادة الكوكايين، التي عرفت بداية دخولها إلى الجزائر منذ سنة 1935 عبر أفراد من البحرية الألمان.

الإخوة بلطرش

خلال سنة 1945 برزت عصابة الأخويين بلطرش محمود وحسين المدعو "الملاكم الصغير" P’tit boxeur"، حيث كان بطل بطولة الجزائر العاصمة في ملاكمة وزن الذبابة الهواة عام 1937، غير أن فن رياضة الملاكمة لم يكن مصدرًا أساسيًا يُوفر لقمة العيش، تَحول الإخوة بلطرش، وهم من مواليد مدينة برج منايل إلى قطاع الطرق، خصوصًا ابتزاز أصحاب الفنادق والمخمرات وعلب الليل.

وقد سطع نجم الإخوة بلطرش بعد السطو على مطعم "Drap D’or" الواقع بشارع باب عزون، والتابع إلى عائلة كربيش عمار، حيث استخدمت الأسلحة النارية في عملية السطو والاعتداء على الطريقة المافيا الأمريكية، بدأ نشاط الإخوة بلطرش يزعج الشرطة الفرنسية، بعد تسجيلهما أكثر من 14 اعتداء مسلح، ما استدعى وضح حد لنشاطهما.

الأسطورة حسان العنابي  

كان بورياشي حسان المدعو حسان العنابي من مواليد سنة 1926 بمدينة قالمة، قد التحق بالعاصمة حديثًا، مباشرة اشتغل في فندق "جون دارك" الواقع بجانب مطعم كربيش عمار بشارع باب عزون، كان صاحب الفندق المدعو "شون شون" من عنابة، أول من قدم يد المساعدة لحسان عند مجيئه إلى العاصمة.

الاستعمار الفرنسي يوقف جزائريين بالعاصمة

كان كربيش عمار يقضي أوقات فراغه مع صاحب الفندق، لتتطور العلاقة مع الخادم حسان العنابي، رغم صرامته وقوته البدنية وقساوة سلوكياته وصلابته، غير أنه أبدى تعاطفًا وتضامنًا مع كربيش، الذي كان كثير شكاوى من ظلم وابتزاز الإخوة بلطرش.

أدرك حسان العنابي أن غسل الصحون لا يُليق بمقامه ومكانته، في البداية أنظم إلى عصابة الإخوة حميش، يؤدي أدوار بسيطة كحماية لاعبي أورق الحظ الذين يحتالون على المارة في الشوارع، كما كان لاعبًا محتالًا بارعًا.

وصل إلى مسامع حسان العنابي أن صديقه المدعو "شون شون" صاحب الفندق، يتعرض إلى مضايقات وابتزاز من الإخوة بلطرش، قرر العنابي كعربون الصداقة لصديقيه عمار وشون شون من الانتقام من حسين بلطرش، حيث تعرض له العنابي بعد ترصد بأحد شوارع القصبة، أين وجه له لكمة أسقطت حسين أرضًا.

انتشرت حكاية لكمة حسان العنابي، وطَرح العنابي "للملاكم الصغير" أرضًا بضربة قاضية، لتنهار أسطورة حسين بلطرش ويعلو نجم حسان العنابي.

ابتدأ من سنة 1948-1950 استطاع حسان العنابي تشكيل من حوله أفراد عصابته، على غرار بُدود رزقي المدعو "بولدوڨ"، سعيداني محمد الملقب "موح الصغير" وحديد عبد القادر المكنى "كدار بوڨتة".

حرب المواقع

تموقع نشاط عصابة حسان العنابي في أسفل القصبة كشارع البحرية، باب عزون، ساحة الشهداء تفاديا الاصطدام مع الإخوة حميش، وتمكن العنابي من السيطرة على تجارة ألعاب الحظ في الشوارع، والقمار، وتجارة السجائر الأميركية، غير أن توسع نشاط حسان العنابي أقلق الإخوة حميش، وبات يهدد نشاطاتهم غير القانونية وتحكمه في الشارع.

من أجل استفزاز عُصبة حسان العنابي، قام الإخوة حميش رفقة أفراد العصابة، بجولة في فندق "جون دارك"، فأدرك شون شون الهدف الذي كان يرمي إليه حسين حميش، بهدوء وراحة أدار صاحب الفندق السهرة الغنائية التي كانت تؤديها المغنية والراقصة المشهورة حينها المدعوة " محجوبة" رفقة راقصتين، لكن وتحت تأثير الكحول تم الاعتداء على صاحب الفندق من طرف جماعة حميش وتحطيم واجهات الفندق وتخريب المطعم، بعدما امتناع شون شون من تسليم الراقصات للإخوة حميش.

الاقتتال في شوارع القصبة

بعد الحادثة ورغم تعويض الأضرار والخسائر من طرف الإخوة حميش، غير أن شون شون قرر مغادرة الجزائر والاستقرار بمرسيليا، وقد تم التنازل عن الفندق والمطعم لصالح حسان العنابي شريطة الانتقام من الإخوة حميش.

جرى اقتتال بين عصابة الإخوة حميش وأفراد جماعة حسان العنابي عبر شوارع وأحياء القصبة، لعدة أيام وليالي، كل طرف يرصد الأخر ويبحث عن الثاني، في فوج الإخوة حميش شكل كل من رزيق عبد الرحمن المدعو "آل كابون"، وصالح "le blond"، و"موح الروجي" زيادة على علي ومحمد مراكش والإخوة Hoya مجموعة الترصد والتدخل.

في المقابل كان رفقة حسن العنابي كل من "رحيم الكعوان" و"كدار بوڨتة"، وكان العنابي لوحده يمثل فوجًا بأكمله.

في 7 تشرين الأول/أكتوبر 1949 اندلعت اشتباكات مسلحة بين العصابيتين في قلب ساحة بورسعيد دامت لدقائق عديدة، أحدث فوضى وارتباكًا وسط السكان الأوروبيين، قامت القوات الشرطة الفرنسية بحملة اعتقالات مست عصابة الإخوة حميش، فيما اختبأ حسان العنابي رفقة أفراد جماعته عند المدعو "علي salembier " أحد أخطر العناصر المافيوية في العاصمة.

بعد إطلاق سراح الإخوة حميش، وأمام الوضع الذي لا غالب ولا مغلوب فيه، وعبر وساطات عصابات الإخوة زردي والإخوة Hoya، ثمة تسوية الصراعات، ووضع حد للاقتتال والتفاهم على تقاسم وتوزيع مناطق النفود والسيطرة.

الجزائر في زمن الاستعمار الفرنسي

أبطال جدد على الساحة

بعد سنة 1954 واندلاع الثورة التحريرية وبداية معركة الجزائر، دخل أبطال جدد إلى الساحة في ميدان القصبة، كان أبطالها زبير بوعجاج، عمر حمادي، وياسف سعدي وعلي لابوانت، أحمد الشايب الملقب "الغراب"، مختار بوشافة، مصطفى فتال، والثنائي عزوز قدور وكاب عبد الرحمن من أتباع مصالي الحاج، والإخوة شروتي، وبوعلام عمورة وبوعلام عبازة.

واستطاعت الجبهة من تجنيد الكثير من أفراد العصابات بعدما أدركوا معاني الاستقلال والحرية والثورة ورفضهم العمل لصالح الاستعلامات الفرنسية على رأسهم مدبر مجزرة 8 ماي 1945  " بقالمة أندري آشياري"، والانضمام إلى الفدائيين  على غرار سعيداني محمد وبوديسة عبد القادر اللذان سقط في ميدان الشرف، ورحيم الكعوان الذي استشهد تحت التعذيب، علي Salembier المحكوم عليه بالإعدام، وغيرهم ممن التحقوا بالجبهة كعنتري مصطفى، ومجذوب محمد، وبدود رزقي، حديد عبد القادر ،ورزيق عبد الرحمان، منهم من تم القبض عليه، وتنفيذ حكم الإعدام عليه، والبعض استشهد تحت تعذيب قوات المضللين.

أما حسان العنابي فقد كانت نهايته على يد عمر حمادي، بعدما رفض الامتثال لتعليمات "الجبهة" القاضية بمنع ممارسة البغاء، والمتاجرة بالكحول ومنع القمار والاعتداء وابتزاز ساكنة القصبة.

التحق مصطفى حميش بالثورة وساهم في تسليح الفدائيين واشتغل رفقة علي لابوانت

في سياق الموضوع، التحق مصطفى حميش بجبهة التحرير الوطني، وساهم في تسليح الفدائيين وأعاد حياة جديدة وبث الروح الوطنية في كافة أفراد جماعته، واشتغل رفقة علي لابوانت الذي بات يُطلق عليه لقب" سي علي".