12-يونيو-2022
العلم الجزائري والإسباني (الصورة/ أر.تي .في .أو)

العلم الجزائري والإسباني (الصورة/ أر.تي .في .أو)

الخلافات بين الجزائر وإسبانيا ليست وليدة اليوم بل تعود إلى عقود مضت، حيث مرت بمنعطفات صعبة، وتعد الأزمة الحالية الأكثر تعقيدًا بينها، فقد أثر سقوط نظام الدكتاتور فرانكو (حكم إسبانيا بين 1939 الى 1975)، الذي يُطلق اسمه على أحد الشوارع الرئيسية بالعاصمة الجزائرية، على العلاقات بين البلدين في السابق،  وانفجرت خلافات حادة بين الجزائر وإسبانيا، إثر توقيع اتفاقية مدريد في العام ذاته لرحيل فرانكو،

تبادلت كلّ من الجزائر وإسبانيا احتضان معارضين لنظاميهما، فتحولت الجزائر إلى ملاذ لقادة في تنظيم إيتا الانفصالي الباسكي وإسبانيا ملجأً لقادة الحركة من أجل الديمقراطية 

في الـ 14 تشرين الأوّل/نوفمبر 1975، وقعت اتفاقية ثلاثية بين إسبانيا والمغرب وموريتانيا، بعد عدة مفاوضات مع المغرب لإنهاء الوجود الإسباني في الساقية الحمراء ووادي الذهب التي تطلب جبهة البوليساريو بإقامة دولة مستقلة فيها.

بعدها، تبادلت كلّ من الجزائر وإسبانيا احتضان معارضين لنظاميهما، فتحولت الجزائر إلى ملاذ لقادة في تنظيم إيتا الانفصالي الباسكي، لكن البلدان استطاعا تجاوز الخلافات في النصف الثاني من الثمانيات بإغلاق مكاتب المعارضين لدى كليهما، فقامت إسبانيا بإبعاد قادة للحركة من أجل الديمقراطية التي أسسها الرئيس الجزائري الراحل أحمد بن بلة (1911-2012) بالمنفي في سنة 1984.

وبدورها قامت السلطات الجزائرية بمنع نشاط التنظيم المتورط في قتل ألف شخص من بينهم مسؤولين كبار في الحكومة والأمن الإسبانيين خلال عقود من الصراع الدموى، وتم ترحيل ستة من زعماء تنظيم على متن طائرة إسبانية من نوع هرقل على إثر انتهاك التنظيم لهدنة وقعت سابقا مع الحكومة الإسبانية في الجزائر.

وبالنسبة للحركة من أجل الديمقراطية فقد رفع الحظر عنها بعد إقرار التعددية في الجزائر في 1989، وسمح لمؤسسها بن بلة من العودة للجزائر وكان ذلك في سبتمبر/أيلول 1990.

وفي سنة 1991 اندلعت أزمة بين الجزائر والغرب كانت إسبانيا أحد أطرافها إثر اكتشاف بناء مفاعل نووي بمساعدة الصين بمنطقة عين وسارة (الجلفة 150 جنوب العاصمة الجزائرية)، ادعت الدول الغربية بأنه برنامج نووي سري لتطوير قنبلة ذرية جزائرية، وانخرطت مدريد في الحملة التي قادتها الولايات المتحدة (لعب فيها الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن بصفته رئيسًا للجنة الشؤون الخارجية بالكونغرس دورًا كبيرًا) للضغط على السلطات الجزائرية للتخلي عن طموحاتها النووية.

 كانت إسبانيا طرفًا أيضًا في العام ذاته في مناورات للحلف الأطلسي التي تعد عضوًا فاعلًا فيه منذ 1982بالمتوسط الذي يفصل البلدين، فيم فهم في حينه بأنها رسالة موجهة للجزائر التي كانت تسعد وقتها لإجراء انتخابات تشريعية اوشكت جبهة الانقاذ الإسلامية المحظورة على الفوز بها قبل تدخل الجيش الجزائري لمنع ذلك.

وتوفر إسبانيا المقرّر أن يعقد بها قادة الحلف مؤتمرًا ضخمًا أواخر شهر حزيران/جوان الجاري تسهيلات للقوات الأميركية منها في قاعدة بحرية في مضيق جبل طارق وأخرى للرد السريع في مواجهة أزمة في القارة الأفريقية متمركزة في منطقة مورون جنوب شرق إشبيلية.

ويشكل تنامي قوات جيوش جنوب منطقة المتوسط مصدر توتر في إسبانيا التي تنظر بأسلحة متقدمة بعين القلق إلى جهود التسلح الجزائرية، وفي الأعوام الأخيرة صدرت في إسبانيا تصرحيات يعبّر فيها مسؤولون سياسيون وعسكريون عن مخاوف من تنامي القوة العسكرية لكل من الجزائر والمغرب (اللذين يتصدران قائمة الدول الأكثر إقبالًا على شراء الاسلحة في القارة الأفريقية حسب تقرير مراكز أبحاث السلام في ستوكهولم).

وشهدت العلاقات في 2015 بعض التوترات إثر إعلان الجزائر لحدود منطقتها الاقتصادية الخالصة بشكل جعل الإسبان يتصورون أنها تطالب بضم جزيرة كابريرا في أرخبيل البليار، لكن الجانب الجزائر أزال تلك المخاوف داعيًا لحل الملف بالمفاوضات.

تعاون أمني واستخبارتي

في مقابل ذلك، يُشار أنّه بفضل إسبانيا تم الكشف عن فضيحة فساد كبيرة أبطالها شركات صينية ووزراء ومسؤولين يديرون مشروع الطريق السيار الذي يربط الحدود الشرقية الغربية على مسافة 1200 كيلومتر بعقد قدر في حينه بـ 13 مليار دولار، حيث سلمت قائمة بمئات الجزائريين بافتتاح حسابات بنكية في بنوك بالبلاد تم تغذية هذه الحسابات من واحدة من الجنات الضريبية تبين لاحقًا مصدرها صيني.

ولم تتردد مدريد، ورغم التوترات السياسية بينها وبين الجزائر في تسليم عدد من المطلوبين للسلطات الجزائرية اللاجئين الى إسبانيا، منهم عسكريان منشقان، هما محمد عبد الله من سلاح الدرك، الذي تم ترحيله في شهر آب/أوت 2021 والعسكري محمد بن حليمة الذي سلم في آذار/مارس الماضي مما أثار انتقاد منظمات حقوقية للخطوة. لكن لايزال عدد من المطلوبين يتقدمهم الجنرال بلقصير قائد سلاح الدرك الأسبق مقيمًا على الأراضي الإسبانية.

وتطرح الآن تساؤلات حول مستقبل التعاون الأمني بعد تعطيل اتفاقية الصداقة الموقّعة سنة ،2002 التي تضبط مجالات التعاون وخصوصًا في المجال الأمني ومكافحة الهجرة السرية.

حبل سري

لم تمنع التقلبات السياسية والخلافات التي تظهر من حين لآخر من بناء علاقات اقتصادية بين الجزائر إسبانيا التي كانت عند مطلع الستينات من القرن الماضي، في مستوى نمو شبيه ببلد نامي، بإطلاق مشروع أنبوب غاز المغرب العربي أو أنبوب مورون فارال بيدرو (رجل أعمال كاتالوني أحيا المشروع الذي بدأ الحديث عنه في 1962) واضعًا جسرًا للتكامل الاقتصادي بين البلدين فهو يوفر للجزائر مداخيل مستقرة بالعملة الصعبة ويضمن للاسبان موردًا طاقويًا دائمًا يؤمن لها احتياجاتها من الكهرباء ومن ثم توديع قارورات الغاز.

وشرع في استغلال الأنبوب الذي يمر عبر الأراضي المغربية والبحر الأبيض المتوسط وصولًا إلى البرتغال في 1995 بطاقة تصل إلى 10 ملايير متر مكعب سنويًا.

وفي 2011 بدء في تشغيل أنبوب جديد يربط البلدين مباشرة، عبر البحر الأبيض المتوسط، وهو الأنبوب الشغال الوحيد بينهما حاليًا بعد رفض الجزائر تجديد اتفاقية تشغيل الانبوب القديم في خضم خلافات غير مسبوقة مع المغرب بلغت قطع العلاقات الدبلوماسية وحظر عبور الطيران المغربي عبر الأجواء الجزائرية.

كان الأنبوب الجديد (الثالث) جزءًا من خطة لتعزيز دور الجزائر كمورد رئيسي للغاز نحو أوروبا، معززًا الخط العابر لتونس نحو إيطاليا، وتحسبًا للأسوأ.

وتورد للجزائر ما يصل إلى 30 بالمائة من حاجياتها الطاقوية (بلغ في وقت سابق 45 بالمائة)، فيما تصدر إسبانيا منتجات غذائية ومعدات صناعية مع ميل ميزان المدفوعات للجانب الجزائري.

وفي 2021 تم تجديد الاتفاق الغازي لغاية 2032، ببنود لم يتم الإعلان عنها لكنه يتيح للبلدين مراجعة الأسعار كل عامين.

مخاوف

الجزائر التي وعدت مرات عدة بالوفاء التعاقدية بتورد الغاز للسوق الإسبانية شرط عدم إعادة تصديره للمغرب، فاجأها التحالف الاسباني المغربي في مجال الغاز إسبانيا وقرار إعادة التحويل العكسي للغاز نحو الجنوب اذ عصف بخطتها لاحتواء الرباط ودفعها لتليين موقفها وإيقاف التقارب مع اسرائيل.

وتدرك الجزائر أن إلغاء العقد الغازي مع إسبانيا سيكون له آثار وخيمة، فمن جهة يتوجب تقديم تعويضات مالية ضخمة ومواجهة غضب الغرب الحليف لمدريد نظير الاخلال بالتزامها، وتعطي ردة فعل الأوروبيين السريعة على إثر إعلان السلطات نيتها في وقف المبادلات مع مدريد صورة لما يحدث مستقبلًا. لهذا توجهت إلى تعليق اتفاقية الصداقة والتي لم تلق أيضًا تفهمًا من الغرب.

من الواضح أن الإسبان سيمضون في البحث عن أسواق جديدة خوفًا من توقف الغاز الجزائري

و تترك الأزمة الحالية آثارًا غير قابلة للجبر في العلاقات الثنائية الجزائرية الإسبانية من خلال إشاعة جو من عدم الثقة والشك لدى الشركاء الآخرين، ومن الواضح أن الإسبان سيمضون في البحث عن أسواق جديدة خوفًا من توقف الغاز الجزائري بعد انتهاء العقد الجديد في ،2032 أيًا كانت طبيعة الحكومة التي تدير شؤون البلاد في تلك الفترة، والأمر سيان للجزائر التي ستبحث عن بدائل للسوق الإسبانية، وإن لم يتحقق ذلك فالأنبوب يبقى صالحًا ومجديًا لنقل المياه المحلاة لتغطية حاجيات القطاع الفلاحي في الجنوب بعد نفاذ آخر قطرة للغاز.