في البداية كان يُمارس هواية الجري على امتداد شواطئ مدينة تيبازة الساحلية غربي العاصمة، هذا الشاب الجزائري الذي عاش مغتربًا في فرنسا منذ نشأته وقرّر الاستقرار في بلاده، لم يحتمل رؤية الفضاء يتحوّل إلى مفرغة مفتوحة للنفايات، فتحوّلت هواية ممارسة الرياضة لديه، إلى معركة زرع القيم وروح المبادرة.
حين تغفل الهيئات الرسمية عن القيام بدورها في نظافة المحيط تظهر حملات تطوّعية على مواقع التواصل الاجتماعي
على طول الساحل الجزائري، الممتدّ على مسافة أكثر من 1200 كيلومتر، وفي بداية كل موسم اصطياف، تكثّف المؤسّسات العمومية في ميدان البيئة والنظافة عملها في تنظيف وتهيئة الشواطئ لاستقبال المصطافين الذين سيعّج بهم الساحل، فتطلق وزارة البيئة حملات نظافة، وتدعو إليها الفاعلين في المجتمع المدني، لمدّ يد العون لتهيئة شواطئ لا يتذكّرها كثير من المسؤولين إلاّ في فصل الصيف، بعد أن يطالها النسيان والإهمال طيلة الأشهر الأخرى.
اقرأ/ي أيضًا: فنوغيل.. المنطقة التي أنصفها التاريخ وظلمتها الجغرافيا
ولكن حين تغيب الهيئات الرسمية تظهر هناك مبادرات حالمة على مواقع التواصل الاجتماعي، تكون بديلًا عن هذا الفراغ، ومن أشهر المبادرين في مجال تنظيف المحيط وأبرز المؤثّّرين في حملات التوعية، الشاب عمر عجيلي الذي بدأ من مدينة تيبازة مهمّة تنظيف الجزائر بمفرده.
الرجل الأخضر
من يعرف عمر عجيلي ونضاله من أجل بيئة نظيفة لا يتوانى في تسميته بـ "الرجل الأخضر"، فهو شاب أعلن الحرب على النفايات في مدينته، وتوسّعت دائرة معركته إلى باقي المدن الجزائرية، يقول في حديث إلى "الترا جزائر"، إنّه شخص يتمنّى أن لا يرى الشواطئ متّسخة مرّة أخرى، "لا أريد أن أصادف فضلات مرمية بشكل عشوائي أينما ذهبت، أريد فقط أن يكتسب الجزائريون عادات بيئية ويُضيفونها إلى عاداتهم اليومية، لماذا لا يحرص الجزائري على تنظيف محيطه كحرصه على الأكل والشرب؟، الأمر لا يكلف كثيرا".
كان عمر مقيمًا بفرنسا، حيث ولد ونشأ هناك قبل أن يقرّر الاستقرار في الجزائر عام 2016، زار كثيرًا من الدول الأوربية كونه عاشقًا للسفر والترحال، ولكنّه أعجب بمدينة تيبازة التي كان يزورهًا لقضاء إجازة الصيف من حين إلى آخر.
لكل قصّة بداية، وبداية عمر مع حملات النظافة يقول عنها: "حين قدمت إلى مدينة تيبازة، كنت معتادًا على الاستيقاظ باكرًا والمشي على شواطئ المدينة وهي خالية من الناس في تلك الفترة، ما رست هواية الجري والاستماع بالنسمات الصباحية للمتوسط، لكنّني صُدمت بما كنت أراه يوميًا، إذ أصبحت شواطئ المدينة الخلاّبة شبيهة بمفرغة عشوائية. لقد تحوّلت إلى سلّة مهملات مفتوحة على الهواء الطلق، لم أحتمل منظر المخلّفات الصناعية والفضلات المنزلية وهي تُرمى عنوة أمام الشواطئ، لتطفو على البحر في صورة مخيفة وقاتمة جدًا".
بعد ذلك، أعلن الشاب الجزائري القادم من أوروبا الحرب على التلويث العمدي للشواطئ، فقرّر أن يبدأ لوحده عملية تنظيف الكيومترات الأربعة الأولى التي تشكل ساحل مدينة تيبازة، كان يبدأ عمله في الصباح الباكر مباشرة بعد خروجه من مسجد المدينة بعد صلاة الفجر، متسلحًا بشجاعته وإصراره وقبعة تقيه حرّ المدينة وقفازات واقية، وأكياس بلاستيكية يجمع فيها.
يستطرد المتحدّث أن الناس هنا لم يعتادوا على رؤية شخص ينظف شاطئًا لوحده كل صباح، خاصّة أن كثيرًا منهم لا يعرفونه آنذاك، مضيفًا أنه سكان المنطقة ربما اعتادوا على رؤية أعوان وظّفتهم البلدية للقيام بذلك لكنهم لا يقومون بالواجب على نحو متقن على حدّ تعبيره.
يعلّق عمر: "لم أكن أقوم بذلك لجلب الانتباه أومن أجل الشهرة، كنت أتعب كي أحرّك في الناس ما يدفعهم للقيام بالشيء نفسه في أماكن أخرى، في الأيام الأولى، كان البعض يظن أنني أتلقّى مالًا عن هذا، بينما كان يراني آخرون مجنونًا أو ربما أنني شاب حالم ويصدق المعجزات، في كل الحالات كنت لا أجني سوى العبارة الشعبية.. يعطيك الصحّة".
نقطة ضوء
لم تكن أكوام النفايات والقارورات البلاستيكية المرمية في كل مكان على الشاطئ تُثني عمر عن مواصلة ما بدأ فيه، رغم معاناته الصحيّة فهو يشكو من نقص حاد في حاسة السمع وتقوّس طفيف في العمود الفقري أجرى على إثره عملية جراحية، لكن إرادته كانت أقوى من كل شيء، يقول عمر عجيلي "كنت أتحدى كل شيء، حتى التحقت بي مواطنة كانت تسكن قرب شاطئ شنوة الذي أعمل على تنظيفه وكانت تراني كل صباح هناك، إنها السيّدة رتيبة ونحن الآن أصدقاء، انضمت إليّ في الشاطئ لمساعدتي، وفي اليوم الموالي قامت بإرسال مجموعة من شباب البلدية كي يقوموا بمساعدتي، لقد غمرتني الفرحة يومها وكأنني حقّقت إنجازا عظيمًا".
لم تكن تيبازة المدينة الوحيدة التي قام عمر بالدعوة إلى تنظيفها، بل كان يجوب كل المدن الساحلية كمستغانم وسكيكدة والأحياء العتيقة أيضًا كالقصبة، وحتى تنظيف الغابات كما فعل في منطقة القبائل، يروي عمر حادثة عاشها في مستشفى مصطفى باشا في العاصمة قائلًا: " قرّرت ذات يوم تنظيف بعض الأماكن داخل المستشفى، وعندما كنت أقوم بتصوير بعض الفضلات المرمية عشوائيًا، باغتني عون أمن واستولى على هاتفي ومسح منه كل الصور، منذ ذلك الحين قرّرت أن أنشر صور كل عمليات التنظيف التي أقوم بها أينما ذهبت".
مواطن إيكولوجي
لقد كان نشر الصور على مواقع التواصل قرارًا صائبًا بحسب المتحدّث، إذ يعتبر أن ذلك ساعده كثيرًا على نشر رسالته، وأصبح يتواصل مع كثير من الجمعيات والصحف والقنوات لتغطية نشاطاته، ويُلقي محاضرات في المدارس للتلاميذ، عن أهميّة الحفاظ على نظافة الشواطئ.
أصبح عمر عجيلي أيقونة للمواطن الإيكولوجي في مدينة تيبازة، وبات حضوره بارزًا في كثير من حملات النظافة
استطاع عمر عجيلي أن يخلق بين المحيطين به روح المبادرة واستفاقة للحسّ البيئي، ويلفت الانتباه إلى الخطر الذي كان يحدق بالشواطئ الجزائرية.
اقرأ/ي أيضًا:
عمالٌ في رمضان.. صيام الغربة وإفطار الطرقات
القصبة العتيقة تنهار.. الإنسان والتراث مهددان في الحي الأثري