30-أغسطس-2022
الفرنسية أرميل توبول تزور قبر جدها في المقبرة اليهودية بتلمسان (الصورة: Getty)

الفرنسية أرميل توبول تزور قبر جدها في المقبرة اليهودية بتلمسان (الصورة: Getty)

قبل أيام قليلة، بعث إعلان قصر الإليزيه وجود حاخام الطائفة اليهودية في فرنسا حاييم كورسيا ضمن الوفد الذي سيرافق إيمانويل ماكرون في زيارته إلى الجزائر، مخاوف من جديد من  أن تكون هذه السابقة خطوة للتساهل مع الحركى اليهود للعودة إلى البلاد التي ولدوا فيها بحجّة التقارب بين البلدين وتسهيل تنقل الأشخاص واستعادة ممتلكاتهم المؤممة بعد الاستقلال.

المحامية بن براهم لـ "الترا جزائر": بعض المحاكم الجزائرية تصدر أحكامًا تصب في صالح هؤلاء الحركى الذين يرفعون دعاوى قضائية تستند إلى وثائق تعود للعهد الاستعماري

وبعدما فشل عدة رؤساء فرنسيين سابقين في أن تكون زياراتهم إلى "المستعمرة السابقة مصحوبة" بشخصية بارزة من مكونات الحركى الجزائريين الذين من بينهم يهود الجزائر، سيختلف الأمر هذه المرة مع ماكرون، غير أن ظروفًا أخرى حالت دون زيارة الحاخام الأكبر الفرنسي، حيث أعلن في وقت لاحق عن إصابته بفيروس كورونا.

سابقة

اهتمت الصحافة الفرنسية بتضمن الوفد الرئاسي الفرنسي الذي سيحل بالجزائر حاييم كورسيا حاخام الطائفة اليهودية في فرنسيا، فقد أشارت  قناة "فرانس 24" الحكومية  إلى أن كورسيا سيكون ضمن الشخصيات الدينية البارزة التي سترافق ماكرون.

وقالت القناة التلفزيونية المعبرة عن السياسة الخارجية الفرنسية "وهذه هي المرة الأولى التي يزور فيها مسؤول ديني يهودي فرنسي رسمي ورفيع المستوى الجزائر منذ استقلالها في 1962"، أجرت معه مقابلة تلفزيونية للحديث عن هذه الزيارة.

وفي حوار سبق زيارة ماكرون، قال حاخام الطائفة اليهودية في فرنسا حاييم كورسيا أنا سعيد جدًا بهذه الرحلة. العديد من الأصدقاء من الجالية اليهودية في باريس يظنون أنني أعود في زيارة أخرى إلى الجزائر.

لكن في الحقيقة لم يسبق لي أن سافرت إلى هذا البلد، مسقط رأس أبي وأمي اللذين عاشا في مدينتي وهران وتلمسان (أقصى غرب البلاد). إنها عودة إلى الأصل والنور. سأتمكن أخيرًا من رؤية أرض لطالما قرأت الكثير عنها في الكتب والمقالات. كانت بعض الكتب التي اطلعت عليها مزينة بالصور الجميلة والملونة، وأخرى تروي المآسي. لدي انطباع بأنني أعرف هذه الأرض على الرغم أنني لم أزرها أبدًا. أنا متشوق لاكتشافها".

وكشف حاييم كورسيا الذي ينتمي والداه إلى المعمرين الفرنسيين، أن زيارته هذه المرة ستقتصر على الجزائر العاصمة، رغم أن زيارة ماكرون تتضمن بحسب ما نقلت تقارير إعلامية التنقل إلى ولاية وهران غرب الجزائر، وذلك لأنه سيتفرغ لزيارة مقبرة اليهود في حي سانت أوجان، ببولوغين قرب حي باب الوادي الشعبي، و" الاعتناء بها لأن هناك العديد من يهود الجزائر الذين تخلوا عن بلادهم في حرب التحرير يريدون زيارتها".

ويرفض الجزائريون عودة الحركى والمعمرين بكل أطيافهم ومن بينهم اليهود الذين هاجروا إلى فرنسا بعد استقلال الجزائر بسبب موقفهم المعروف من ثورة التحرير، فقد أوضح الأستاذ الزبير بن بردي الذي يحضر لدكتوراه في التاريخ المعاصر بجامعة الشهيد حمّه لخضر بالوادي بأن"موقف الأغلبية من يهود الجزائر كان داعمًا للاحتلال والوجود الفرنسي في الجزائر ومعاد للثورة التحريرية ومن بينهم اليهودي أندري ناربوني.

وأضاف بن بردي" لقد خان هؤلاء اليهود الوطن الجزائر الحاضن لهم، وكانوا سببًا في وقوعه تحت براثن الاحتلال سنة 1830، كما تشبّعوا أثناء فترة الاستعمار بالثقافة الفرنسية وحصلوا على العديد من الامتيازات على رأسها قانون كريميو 24 أكتوبر 1870، وتجنّد أيضا أبناؤهم في الجيش الفرنسي خاصة خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، كُلُّ هذا دفعهم إلى دعم الاحتلال الفرنسي أثناء الثورة الجزائرية نظرا لارتباط وجودهم في الجزائر بوجود فرنسا، وللحفاظ على مصالحهم وممتلكاتهم وامتيازاتهم التي اكتسبوها طيلة قرون".

يشار إلى أن الصحافة الفرنسية، تحدّثت عن عودة جزء من المعمرين السابقين في الجزائر بإضفاء الصبغة الدينية الطائفية، فقد كان الفرنسيون المسيحيون واليهود جزءًا من أحياء المعمرين في الجزائر، واستحوذوا على أراضي وممتلكات الجزائريين بعد إخلائها من القوات الفرنسية بعد تهجير الأهالي وتقتيلهم، وهو ما دفع بالسلطات الجزائرية إلى تأميمها بعد استقلال البلاد.

وترفض الجزائر عودة كل المعمرين بما فيهم الحركى اليهود والجزائريين المسلمين، بسبب وقوفهم ضد ثورة التحرير والتسبب في مقتل الكثير من الثوار والأهالي المساندين للثورة، وهو ما يثير تساؤلات حول محاولة تحييد اليهود واستثنائهم من المعمرين الذين سكنوا الجزائر، وإعطاء الموضوع صبغة دينية.

استعادة

وقال كورسيا في الحوار سالف الذكر، "لكن في المستقبل سأسافر أيضًا إلى مدينتي تلمسان ووهران حيث عاش والداي. أريد أن أقف على منزل أمي وأبي في تلمسان لأنني أشعر بحنان كبير إزاء هذه الأرض وهذا البلد. سأجد الأمر جيدًا إذا استطاع يهود الجزائر الذين يعيشون اليوم في فرنسا أن يزوروا بلدهم الأصلي كما يقوم بذلك يهود المغرب وتونس".

ورغم أن المشرع الجزائري أمّم الممتلكات والمنازل التي كانت تابعة للأقدام السوداء والحركى وبينهم اليهود إلا أن كورسيا مازال يتكلم عن منزل عائلته في الجزائر.

وتابع كورسيا "أريد أن أقول إن هناك العديد من الجهات التي بدأت فعلًا تعمل وتنشط من أجل التقارب بين الجالية اليهودية التي كانت تعيش في الجزائر ووطنها الأصلي. شخصيًا لدي قناعة كبيرة بأن السلطات الجزائرية تعمل هي الأخرى في هذا الاتجاه ومن أجل تصالح الذاكرة والسماح ليهود الجزائر بالعودة إلى وطنهم الأصلي لرؤية الأنوار التي عرفوها خلال طفولتهم ولكي يشموا من جديد الروائح التي دفنوها داخل قلوبهم وذاكرتهم خلال سنوات عديدة".

واعتبرت المحامية فاطمة الزهراء بن براهم في حديثها مع "الترا جزائر" أن  الهدف من الزيارات التي يتحدث عنها  كورسيا هو استعادة الممتلكات المزعومة الموجدة في الجزائر، مشيرة إلى أن "يهود الجزائر ومختلف الحركى الجزائريون والأقدام السوداء  يعملون منذ سنوات على هذا الملف بالتواطؤ مع موظفين في الإدارة الجزائرية".

وقالت بن براهم " بالرغم من  إصدار الجزائر في 1964 قانونًا كان قد منح الفرنسيين واليهود والحركى الذين سافروا إلى فرنسا فرصة تسوية وضعية ممتلكاتهم التي تركوها في الجزائر وقتها خلال سنتين قبل تأميمها، وهو ما تم حيث تم تعويضهم عنها، إلا أن هؤلاء لا يزالون حتى اليوم يتحدثون عن ممتلكات مزعومة في الجزائر".

وأشارت بن براهم إلى أن الحركى ومن بينهم يهود الجزائر بدؤوا يشتغلون عبر إحدى الجمعيات، وباستغلال ثغرات إدارية لاستعادة ممتلكاتهم المزعومة المتمثلة أغلبها في منازل عبر رفع دعاوى قضائية في المحاكم  لسلب الجزائريين المنازل التي يقطنونها حاليًا، مشيرة في هذا الإطار إلى أنها من الذين دافعو عن موكلين تفاجؤوا بمطالبة بعض أبناء الأقدام السوداء بهذه المنازل".

وبدوره يؤكد الأستاذ الزبير بن بردي أنه "ليس من حق اليهود اليوم وغدًا أن يطالبوا بأي شيء، لأن ما يزعمون أنها ممتلكاتهم هي في الأصل أغلبها ملك للجزائريين، وحصلوا عليها بطرق غير شرعية وبمساعدة الإدارة الاستعمارية.

كما أنّ هؤلاء اليهود قد خُيّروا بعد الاستقلال مباشرة بين البقاء في الجزائر محتفظين بكامل حقوقهم وممتلكاتهم أو مغادرتها، وقد قرّر حينها الغالبية منهم المغادرة والتخلّي عن ممتلكاتهم، وهي الفئة التي يطالب اليوم أبناؤها وأحفادها باسترجاعها، متناسين أن القانون الجزائري كان قد أنصف آباءهم حين شدّد على أن كل فرنسي سيتمتع بجميع حقوقه في حال لم يغادر الجزائر لمدة تتجاوز العامين من 1962 حتى 1964، وفي حال مغادرته فإن هذه الممتلكات تدخل ضمن الأملاك الشاغرة التي تعود للدولة الجزائرية".

وفي أذار/مارس الماضي، قال المحامي لدى المحكمة العليا الجزائرية جلال بن براهم لموقع رصيف22، إن "المئات من الملفات أودِعت كشكاوى من يهود أوروبيين في مختلف المحاكم المحلية الجزائرية والهيئات الدولية للمطالبة باسترجاع عقاراتهم أو التعويض عنها".

وأضاف بن براهم أن "أكثر من 600 عائلة أوروبية باشرت في العشر سنوات الأخيرة، مساعيها عبر المحاكم الجزائرية والأوروبية، ووصلت إلى الهيئات الدولية أيضًا، من أجل تحريك ملف الممتلكات اليهودية في الجزائر".

لكن المحامية فاطمة الزهراء بن براهم أكدت لـ" الترا جزائر" أن هذا الملف طرح من طرف الأقدام السوداء على المحكمة الأوروبية لاستعادة أملاك مزعومة في الجزائر وتم رفض هذا الطلب، ليبقى المشكل في بعض المحاكم الجزائرية التي تصدر أحكامًا تصب في صالح هؤلاء الحركى الذين يرفعون دعاواهم بالاستناد إلى وثائق تعود للعهد الاستعماري والتي من المفوض أنها أصبحت لا تملك أي وزن قانوني.

ضغوط 

تؤكد فاطمة الزهراء بن براهم  أنها كغيرها من الجزائريين ليس لها أيّة مشكلة مع اليهود الذين يعيشون حتى اليوم كمواطنين جزائريين في بلادهم، إلا أن المشكل يكمن في الحركى وأبنائهم وباقي الأقدام السوداء سواء كان يدينون بالإسلام أو اليهودية.

وهنا، يشير الأستاذ الزوبير بن بردي إلى أن الجزائريين لا يرحبون باليهود الذين خانوا الوطن، لكنهم في مقابل ذلك عاشوا جنبًا إلى جنب مع اليهود الذين انتصروا لبلادهم الجزائر، مذكرًا أن "بعض اليهود المتشبّعين بالأفكار الشيوعية  ساندوا الثورة مثل: الطبيب بيار بن كمون، واليهودي بيير غناسيا المدعو الحاج، الذي التحق بصفوف جيش التحرير الوطني وشارك معه في عدة معارك إلى أن قتل في إحداها".

وبسبب هذا الموقف الجزائري الشعبي والرسمي من عودة اليهود الحركى، ظل هذا الملف يستعمل كورقة ضغط دولية رسمية وإعلامية من قبل جهات خارجية، وفي مقدمتها ما تتضمنه تقارير الخارجية الأمريكية للحرية الدينية التي تدّعي في كل مرة  عدم تمكين اليهود في الجزائر من ممارسة شعائرهم الدينية.

ففي 2016، قدم وزير الخارجية الأميركي الحالي أنتوني بلينكن الذي كان يشغل وقتها منصب نائب وزير الخارجية التقرير السنوي المتعلق بالحرية الدينية لعام 2015، والذي زعم فيه أن المجتمع الجزائري يعتبر معاديًا للسامية، في نظر بعض الأجانب المقيمين بالجزائر.

وزعم التقرير بطريقة موجهة أن الشعب الجزائري يرفض وجود اليهودي، لذلك فإن "الجزائريين اليهود لا يستطيعون الجهر بديانتهم اليهودية خوفا على حياتهم مما يجبرهم على العيش بهوية أخرى".

وفي أيلول/سبتمبر 2020، طالب الصحفي الصهيوني إيدي كوهين الجزائر ودولا عربية بدفع 200 مليار دولار للحكومة الإسرائيلية "كتعويضات لليهود العرب النازحين من بعض الدول العربية"، على حد زعمه.

الحركى اليهود والجزائريين نالوا المعاملة نفسها واعتبروا معمرين وقفوا ضد ثورة التحرير وساندوا الاستعمار الفرنسي 

وإن كان الحديث عن زيارة حاييم كورسيا فتح ملف الممتلكات المزعومة لحركى اليهود الداعمين للحتلال الفرنسي ومختلف عناصر الأقدام السوداء، فإن التخوف الأكبر يبقى من أن تكون هذه الخطوة مطية لفتح باب التطبيع مع الاحتلال الصهيوني المرفوض من قبل الجزائريين مهما كانت التبريرات والحجج.