02-فبراير-2020

الحراك الشعبي مستمر رغم الخناق المفروض عليه الشارع (أ.ف.ب)

كنت في القطار. ومنحت أذني لحوارٍ كان يدور بين نخبة من الشّباب المساندين للخيار الدّستوريّ الذّي أفضى إلى وصول عبد المجيد تبّون إلى الرّئاسة، وآخرين ينشطون في الحراك الشّعبيّ والسّلميّ ويتحفّظون على هذا الخيار، فقال أحد هؤلاء إنّه على النّظام الجزائريّ، أن يستبدل عبارة "جبهة التّحرير أعطيناك عهدًا" في النّشيد الوطنيّ الذّي كتبه شاعر الثّورة مفدي زكريّا، بعبارة "يا فرنسا إنّا أعطيناك عهدًا".

في كلام الشّابّ الحراكيّ إشارة إلى أنّ النّظام الجزائريّ ظلّ وفيًّا للانسجام مع الفرنسيّين

في كلام الشّابّ الحراكيّ، إشارة إلى أنّ النّظام الجزائريّ ظلّ وفيًّا للانسجام مع الفرنسيّين، وراعيًا لمصالحهم في الجزائر، فهو يفضّلهم على غيرهم في التّعاملات الاقتصاديّة، ويفضّل لغتهم من بين كلّ اللّغات الحيّة، ويرسل إليهم رموزه للعلاج والتبضّع والإقامة، ويكتفي بالردّ على إهاناتهم بالتّصريحات والبيانات. مثلما حدث حين أقدم البرلمان الفرنسيّ عام 2005، على سنّ ما عرف بقانون تمجيد الاستعمار في الجزائر، حيث القول إنّ هناك مزايا وحسناتٍ له.

اقرأ/ي أيضًا: تعديل الدستور.. بين تبون وبوتفليقة والشاذلي وديغول

ولم تجرؤ الحكومات الجزائريّة المتعاقبة على اتّخاذ إجراءات، خارج الكلام، على مطالبة الفرنسيّين بإنصاف الذّاكرة التّاريخيّة الجريحة واسترجاع أرشيف الثّورة. بل إنّها لم تقم بخطوات عمليّة لأجل استرجاع جماجم المقاومين الجزائريّين من متحف الإنسان في باريس، بطلب من إدارة هذا المتحف نفسه.

تعود بعض هذه الجماجم، لوجوه تُقدّم في المنهاج التّربويّ الحكوميّ الجزائريّ على أنّها نخبة المقاومة الوطنيّة في القرن التّاسع عشر، منها شريف بوبغلة زعيم المقاومة في منطقة القبائل عام 1850، والشّيخ بوزيّان زعيم ثورة الزّعاطشة عام 1849، ومحمّد بن علّال بن مبارك أحد أكبر مساعدي الأمير عبد القادر.

فكيف يكون شعور طفل جزائريّ يدرس في المدرسة، أنّ فلانًا كان مقاومًا صنديدَا للاحتلال الفرنسيّ، وهو مطالب بأن يحترمه ويقتدي به في حبّ الوطن، ثمّ يقرأ ويسمع بأنّ حكومته تقاعست في العمل على استرجاع جمجمته الموضوعة في أحد متاحف فرنسا؟

في المقابل، يستنجد النّظام الجزائريّ بسبّ وشتم الفرنسيّين والقول إنّه سيريهم "العين الحمراء"، كلّما أحسّ بخطر شعبيّ يتهدّده ويطالبه بالتّغيير أو الرّحيل أو تسليم المشعل للجيل الجديد، في واحدة من أبغض المتاجرات بالرّوح الوطنيّة العميقة لدى الجزائريّين، مع تسجيل أنّ الطّرف الفرنسيّ لا يقوم بأيّ ردّ في مثل هذا السّياق، لعلمه بحاجة النّظام في الجزائر إلى مثل هذه الخرجات الاستعراضيّة.

ففي الوقت الذّي اجتمع فيه البرلمان الفرنسيّ، ليقول إنّ احتلال الأجداد للجزائر عاد عليها بمزايا حضاريّة كثيرة، سمح عبد العزيز بوتفليقة للأبواق المختلفة بالشّجب والتّنديد، بالموازاة مع إنقاذه لـ 500 شركة فرنسيّة من الإفلاس، بأن فتح لها أبواب الاستثمار في التّراب الجزائريّ، في عزّ البحبوحة الماليّة.

ومن المعلوم أنّ أنصار المسار الدّستوري، خلال الأشهر الأخيرة، في الجيش وفي الحكومة، راهنوا على إقناع قطاع واسع من الجزائريّين بمغادرة صفوف الحراك الشّعبيّ والالتحاق بمكاتب الانتخاب، على أنّ فرنسا من يقف وراء الحراك، فاتهموا وجوهه بالعمالة والخيانة الوطنية، وأنّ الرّئيس المنتخب الجديد سيكون بالمرصاد للفرنسيّين، فيحرّر الهوّية الثقافيّة والمصالح الوطنيّة من أيديهم. فماذا حدث بالضّبط بعد 12 كانون الأول/ديسمبر الماضي؟

استمرّت القنوات التلفزيّة الرسميّة والخاصة في بثّ الأفلام باللّغة الفرنسيّة من غير دبلجة، وتمرير التّصريحات المفرنسة من غير ترجمة، وكأنّ الفرنسية لغة وطنية، وكان أوّل خروج للرّئيس تبّون إلى الميدان، مقرونًا بمخاطبة رجال الأعمال في معرض الإنتاج الوطنيّ باللّغة الفرنسيّة، وكذلك فعل عدد معتبر من وزراء حكومته، مباشرةً بعد استلام مهامّهم.

أمّا على مستوى المواقف، فقد دافع الرّئيس تبّون، في أوّل ظهور تلفزيونيّ له، عن خيار اللّجوء إلى الاستثمار في الغاز الصّخري الذّي يرفضه قطاع واسع من النّشطاء الجزائريّين، ويضغط الفرنسيّون من أجل أن يحدث، في مسعاهم إلى أن تحتكر شركاتهم مفاصل الاستفادة منه. وسارع وزير خارجيته إلى استنكار ما قاله الرّئيس التّركيّ على لسانه أثناء لقائه به، بخصوص الذّاكرة التّاريخيّة المشتركة مع الفرنسيّين.

صحيح أنّ الرّئيس أردوغان استعمل تصريح الرّئيس تبّون من الزاوية التّي تخدم مصالح تركيا، في مسعى ردّها على فرنسا التّي تسعى إلى تجريم الحضور التّركي في أرمينيا عام 1920، لكن هل القول إنّ فرنسا قتلت خمسة ملايين جزائريّ يستدعي ردًّا رسميًّا؟ من الأوْلى بأن يراعي السّيّد تبّون مشاعرهم، مواطنيه الجزائريّين أم الفرنسيّين؟  

كلّ ذلك، في ظلّ تراجع واضح عن خيار استبدال اللّغة الفرنسيّة باللّغة الإنجليزيّة، الذّي قدّمه وزير التّعليم العالي السّابق في حكومة نور الدّين بدوي، على أنّه دليل على تحرّر الجزائر من الهيمنة الثقافيّة الفرنسيّة. وما أن جاء وزير التّعليم الحالي في حكومة عبد العزيز جرّاد، حتّى قال إنّ اللّغة في التّعليم لا تهمّ بقدر ما تهمّ المناهج.

النظام الجزائري أعطى عهدًا لفرنسا التّي حاربتها هذه الجبهة التّاريخيّة وأرغمتها على الخروج

من هنا، رأيت وجاهةً في الاقتراح الذّي سمعته من الشّابّ في القطار، حيث أنّ النّظام الجزائريّ في الحقيقة لم يعطِ عهدًا لجبهة التّحرير، والدّليل أنّه ميّعها وابتذلها بالاستعمالات السّياسيّة المخلّة بحيائها الوطنيّ والثوريّ، حتّى باتت ملعونةً شعبيًّا، بل أعطى العهد لفرنسا التّي حاربتها هذه الجبهة التّاريخيّة وأرغمتها على الخروج.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

اللّقاء التّلفزيوني الأوّل لتبّون.. سلطة الرّداءة

سيادة الرئيس.. ماذا تعرف عن الـ "ساندويتش"؟