19-مايو-2022
أمام محكمة سيدي امحمد بالعاصمة (الصورة: الإخبارية)

أمام محكمة سيدي امحمد بالعاصمة (الصورة: الإخبارية)

بإيداع الأمين العام السابق للمركزية النقابية، عبد المجيد سيدي السعيد، الحبس المؤقّت في قضايا فساد بتاريخ 13 أيّار /ماي الجاري، عاد للواجهة ملف محاكمة السياسيين ورجال الأعمال ورموز النظام السابق الذي شهدت فصوله ركودًا ملحوظًا خلال الأشهر الأخيرة، بعد سنتين من الأحداث الساخنة.

يعتقد كثيرون أن تأخّر محاكمات الفساد قد يقود خلال المرحلة المقبلة إلى فتح ملف التسوية الودية مع رجال الأعمال المتورّطين

ويؤكّد قانونيون أن تحريك دفاتر المحاسبة العالقة، ما هو إلا إيذان ببداية شوطٍ ثانٍ من الحرب على الفساد، الهدف منه الذهاب بالسرعة القصوى نحو استرجاع الأموال المنهوبة في الداخل والخارج، التي تظلّ السلطة بأمس الحاجة إليها اليوم وورقة هامة للمرحلة المقبلة، رغم أنها لم تقطع أشواطًا معتبرة لاستعادتها لحد الساعة، خلافًا لما توحي به التصريحات السياسية.

وإذا كانت الخطوة الأولى بإيداع عبد المجيد سيدي السعيد وفي نفس اليوم مدير ميناء مستغانم غرب البلاد، الحبس المؤقّت في قضايا فساد، عشيّة الحديث عن مصالحة وطنيةومشاورات سياسية وإثارة ملف التسوية الودية لبعض المتابعين قضائيًا، فإن المرحلة المقبلة ستشهد فتح ملفات فساد أخرى تتعلّق بأسماء مسؤولين سابقين تم إخراجها من الأدراج، ولم يتبقّ اليوم إلا مباشرة إجراءات التبليغ والاستدعاء والإيداع.

ويأتي ذلك وسط تضارب في الآراء بين من يرى أن هذه القضايا التي كانت محلّ تحقيق وتجميع للأدلّة، لم تكتمل ملفاتها إلا اليوم، وأن مكافحة الفساد مستمرّة ولم تتوقّف لساعة واحدة، في حين يعتبرها آخرون مجرّد تصفية للخصوم السياسيين وتسوية حسابات شخصية.

خلفيات عودة المحاكمات

ويعتقد المحلّل السياسي توفيق بوقاعدة في تصريح لـ"الترا الجزائر"، أن عودة ملفات الفساد للواجهة في هذا التوقيت بالذات، يرتبط أساسًا باستكمال التحقيق في بعض القضايا التي استغرقت وقتًا طويلًا، لتفكيك خيوطها، وهو ما يمكن إسقاطه على عبد المجيد سيدي السعيد، الذي تأخر قرار القبض عليه، وإيداعه الحبس المؤقت بسبب ملفه الصحّي وأيضًا تعطّل استكمال التحرّيات على مستوى الضبطية القضائية.

كما يؤكّد عضو لجنة الشؤون القانونية بالمجلس الشعبي الوطني محمّد سقراس أنه بعد بداية الحراك الشعبي بتاريخ 22 شباط/فيفري 2019، شهدت الجزائر سلسلة محاكمات لرموز النظام السابق، وبين التسرّع والهرولة والتعسّف التي عرفتها الملفات الأولى، كان لا بدّ من التريّث لفتح ملفات فساد حقيقية، يتمّ النبش فيها بدقة لبلوغ أدلة واقعية تدين المتورّطين، على غرار ما حدث في قضية مدير ميناء مستغانم، وأيضًا الأمين العام السابق للمركزية النقابية.

ويعتبر سقراس في تصريح لـ"الترا الجزائر" أنه قبل عودة المحاكمات خلال الأشهر الماضية، كان المكلّفون بالملف في مرحلة جمع المعطيات وتحليل الوقائع، وهو ما قد يستغرق وقتًا أطول من المتوقّع، فعملية مكافحة الفساد ستمس مستويات مختلفة وقطاعات مغايرة، وأشخاص متباينين، وتنطلق من القمة لتصل إلى القاعدة، ولن تنتهي في أيّام أو بضعة أشهر، بل ستستغرق عدة سنوات، لأن الفساد في الجزائر لم يقتصر على شخص معيّن بل شمل منظومة بأكملها، استولت على الحكم في البلاد لعقود من الزمن وامتدت جذورها لكافة القطاعات.

تسريع استرجاع الأموال المنهوبة

إعادة فتح ملف محاكمات الفساد ما هو إلا خطوة استعجالية لتسريع عملية استرجاع الأموال المنهوبة، التي لم تعرف تطورات مشهودة خلال الفترة الأخيرة.هنا، يقول القاضي السابق والمختص في قضايا الفساد، خميسي عثامنية، في تصريح لـ"الترا الجزائر" إنه كلما ثبتت قضية فساد في أيّة دولة في العالم، تتعلق بالمال العام، تتحرّك السلطة لاسترجاع المنهوبات في الداخل والخارج، إلا أن هذه العملية حسبه ترتبط بعدة محاور، منها القانونية؛ حيث يفترض صدور أحكام نهائية في حقّ المتهمين ومنها السياسية المتعلّقة برغبة السلطات في أيّة دولة وأخرى دولية، تعتمد على الاتفاقيات التي تربط الدولة بالبلد الذي يتم تهريب الأموال إليه، على حدّ قوله.

ووفق عثامنية، إذا انطلقت العملية في الجزائر بالحجز على عقارات رجال الأعمال والمسؤولين المتورّطين في الفساد وسياراتهم والأموال الموجودة  في حساباتهم، فالعملية لن تُستكمل إلا بمواصلة المحاكمات المرتبطة ببقية المسؤولين، ما يجعل من إعادة فتح الملف على مستوى القضاء يندرج ضمن هذه الخطوة، للتعجيل في استعادة الأموال المتواجدة في الداخل، وحتى الخارج، وفق اتفاقيات دولية تتعلّق خاصة بمكافحة الفساد.

وهو نفس ما يذهب إليه المحلّل السياسي توفيق بوقاعدة، الذي يعتبر أن تسريع محاكمة المتورطين في قضايا الفساد، يندرج في إطار استرجاع الأموال المنهوبة، إذ سجّلت الحكومة استرجاع نسبي لبعض الممتلكات في الأشهر الأخيرة، إلا أن المبالغ المكدّسة في الخارج، لم تشهد أيّة خطوة لحد الساعة، كما أن الإجراءات القانونية تسير ببطء شديد، وأردف المتحدث "أعتقد أن نزاهة التحقيقات والابتعاد عن الانتقام السياسي والأحكام القانونية التي تشوبها خروقات، هو أحد آليات التعجيل في استرجاع الأموال المنهوبة".

عراقيل تعترض العملية

ولم يخف بوقاعدة اصطدام عملية استرجاع الأموال المنهوبة المتواجدة في الداخل والخارج بجملة من العراقيل والصعوبات، وتحدّث هنا عن تعقّد الإجراءات، "لاسيما بالنسبة للمبالغ المهرّبة إلى الخارج، والتي تفرض امتلاك خبرة قانونية وعلاقات دبلوماسية قوية، وهو ما ينقص السلطات الجزائرية، خاصة حينما يتعلّق الأمر ببنوك البلدان التي توصف بالجنات الضريبية، لذلك لم يتم استرجاع لحد اليوم دولارًا واحدًا من الخارج".

وتلتزم البنوك السويسرية بعدم تقديم أيّة معلومات أو معطيات عن أسماء زبائنها وقيمة ودائعهم ومدّخراتهم وهو ما يعقّد معرفة قيمة الأموال الموجودة هناك خاصّة إذا كانت الحسابات مفتوحة بأسماء مستعارة، ويأتي ذلك رغم أن هذه الدولة الأوروبية، أحد الموقّعين على الاتفاقيات الدولية لمكافحة الفساد، كما أن الإجراءات العامة لمصادرة الأموال في الخارج، تقوم على مبدأ التعامل بالمثل في القوانين الدولية، أي أن استرجاع الأموال مرتبط بسيرورة الأحكام النهائية الصادرة من قبل المحاكم الجزائرية، التي لم تقل كلمتها النهائية لحد الآن بشأن الأشخاص المتواجدين في السجن حاليا.

من جهته، طالب عضو لجنة الشؤون القانونية بالمجلس الشعبي الوطني محمد سقراس بتحرك الدبلوماسية الجزائرية في الأمم المتحدة للضغط على هذه الدول، كي تتجاوب مع الجزائر في هذا الملف، كما طالب الحكومة الجزائرية بالاستفادة من خبرة الدول التي خاضت هذه التجربة قبلها، خاصة تلك التي شهدت انهيار أنظمة الحكم، ومحاكمات فساد كبرى.

نحو تسوية ودية مع رجال الأعمال

في مقابل ذلك، يعتقد البعض أن تأخّر محاكمات الفساد، وعدم صدور أحكام نهائية في العديد من القضايا وحتى الرغبة الملحة للدولة في استرجاع "الأموال المنهوبة"، قد يقود خلال المرحلة المقبلة إلى فتح ملف التسوية الودية مع رجال أعمال متورّطين في قضايا فساد وفق شروط خاصة، لا سيما وأن مخطط عمل الحكومة المعروض شهر أيلول/سبتمبر 2021 أمام البرلمان الجزائري قد تطرّق إلى هذه النقطة ـ التسوية الودّية ـ دون تقديم توضيحات كافية وتفاصيل عن الفكرة.

إلى هنا، لم يستبعد توفيق بوقاعدة، أن يكون هنالك توجّه لدى السلطة من أجل إيجاد صيغة أخرى لمعالجة ملفات الفساد خلال المرحلة المقبلة، من خلال إطلاق سراح رجال الأعمال المتابعين في قضايا فساد، "إذا ثبت أن الشبهة التي تلازمهم ليست بالضخامة المعتقدة، وهذا في إطار مسعى السلطة للم الشمل، خاصّة وأن الجزائر مقبلة على انطلاقة جديدة للاقتصاد الوطني، عبر إصدار قانون استثمار جديد، وبغية إعطاء نوع من الطمأنينة للمستثمرين الأجانب وأيضًا بهدف تنويع مداخيل الجزائر خارج المحروقات".

يبقى ملف التسوية الودية لمفات الفساد الأكثر إثارة للجدل في الجزائر خلال الأشهر الأخيرة بين السياسيين المؤيّدين للفكرة ووأطراف المعارضة 

ويبقى ملف التسوية الودية الأكثر إثارة للجدل في الجزائر خلال الأشهر الأخيرة، بين السياسيين المؤيّدين للفكرة والمسعى، بحجة أن استرجاع الأموال بالطريقة القانونية شبه مستحيل خلال المرحلة المقبلة، وأولئك المعارضين الذين يرون أن مثل هذا التوجّه ما هو إلا حيلة للإفلات من العقاب، ومجرّد مخطّط محكم لاستمرار النهب والفساد في الجزائر خلال المرحلة المقبلة.