13-أبريل-2019

يقول نيتشة: "ما تحتاج إليه الدولة لتصير في مقام ديانة، هو جيش من الأغبياء" (Flickr)

منذ متى كانت الدولة الشمولية بحاجة إلى الأذكياء؟ يبدو أنّ الدول الشمولية قامت عبر تاريخها على إقصاء هؤلاء الأذكياء والعباقرة الذين يتمتعون بعقول متقدة، وببصيرة نفاذة. فهؤلاء تعاقبهم بأشكال مُختلفة، والسبب أنّهم أذكياء.

تستعين الدولة الشمولية بجحافل من الأغبياء لفرض سياستها؛ فالغباء شرط أساسي لتقبل بك الدول الشمولية التي نعيش تحت نيرها

الدولة والأغبياء

في المقابل، تستعين الدولة الشمولية بجحافل من الأغبياء لفرض سياستها، فالغباء شرط أساسي لتقبل بك الدول الشمولية التي نعيش تحت نيرها. يقول نيتشه، إنّ "ما تحتاج إليه دولة ما لتصير في مقام ديانة أو عقيدة، هو بالذات جيش من الأغبياء، فهؤلاء ينقادون بسهولة، ويصدقون الأكاذيب بسهولة، بل وقد يكذبون ويصدقون أنفسهم".

اقرأ/ي أيضًا: حين يضحك الشارع يسقط الديكتاتور

الأغبياء، هم أيضًا يمثلون كباش الفداء لمّا يحين وقت المحاسبة أمام التاريخ، فالدول تقيم المشانق لتضحي بهؤلاء، ثم تعدهم بالجنة في الآخرة، لأنّ موتهم كان لأجل الدولة. وللأسف، تاريخ البشرية يختصر في المشهد الكوميدي التالي: زعماء اختطفوا السلطة، يثيرون الحروب، فيقنعون الأغبياء بضرورة الموت في ميادين القتال، هم فقط من يجب ان يموتوا، أما الزعماء فخلقوا لكي يدفعوا الأغبياء إلى الموت. وعد الآخرة السعيدة كفيلة بأن تلقي بالملايين إلى موت مجاني.

تتغذى عقيدة الدولة من أنانية التجار، الذين يبيعون كل شيء حتى كرامتهم، ومن غطرسة العسكريين. يجتمع المال والسلاح لأجل التبشير بالدولة. عندما تتحول الدولة إلى أسمى هدف للإنسان، فاعلم أنّ وراء هذه المزحة البائسة يقف تاجر وعسكري. ثم يأتي الأغبياء يصدقون ويتدافعون في خنادق الحروب لكي يموتوا. كثيرون منهم يلقي حتفه دون أن يعرف أصلًا إن كان موته سينتشل عائلته الفقيرة من حفرة الفقر.

استئصال جذور شجرة الثقافة

وُجدت الدولة لتقتل الثقافة. لا يمكن الجمع بينهما. قال أحدهم: "لمّا أسمع لفظة ثقافة أتحسّس مسدسي". وقد يتحسس نعله. إنّ أكبر مشروع ثقافي للدولة هي اقتلاع الثقافة من جذورها، أقصد الثقافة التي تنتج القيم الإنسانية الكونية، والتي تبشّر بالسعادة الإنسانية، وبالحب الإنساني. الثقافة أيضًا التي تعني قيم الحرية التي تمكّن الأفراد من ممارسة وجودهم.

هل يُعقل أن تعيش شجرة الثقافة في البستان الخلفي للدولة؟ مفهوم الدولة هو المفهوم المناقض للثقافة، فكلاهما يقف عند الطرف النقيض. فلا نتعجّب، أنّ قيمة العالم والفيلسوف والكاتب والفنان قابعة أسفل الدرك الاجتماعي، بهدف استبعاد أصواتهم التنويرية، التي تشكل تهديدًا مستمرًا للدولة ولقيمها.

تحدث نيتشه عن وظيفة الفيلسوف داخل الدولة، فحياته مرهونة بمدى الحضور الثري للثقافة، وبمدى بعده عن الدولة، بحيث توفر له هذه المسافة إمكانية النظر والتعامل نقديًا مع ما تنتجه الدولة من قيم.

يختلف الفيلسوف عن أستاذ الفلسفة، لأنّ هذا الأخير ينتمي إلى مؤسسات الدولة، وتكون أسمى أهدافه أن يتسلق نحو القمم من خلال التعبير عن رضاه بدولته، على خلاف الفيلسوف الذي يقف في الضفة المقابلة، يفصله عن الدولة نهر متحرك، يعيش على فكرة أنّ الدولة التي تعتبر نفسها إله هي خطر على الثقافة وعلى الإنسان.

إنّ استمرارية أي دولة، وقد أكد التاريخ على ذلك، يكون عبر تدمير الثقافة، أو على الأقل تعطيل أدواتها التأملية والنقدية، ومن خلال محاصرة المعرفة والتقليل من قيمة العلماء والفلاسفة، ومن خلال النفخ على رماد الصراعات حتى تظل متقدة باستمرار، لأجل وضع أطياف المجتمع المختلفة في حالة تأهب مستمر لحالة الحرب. وهو ما أطلق عليه نيتشه مصطلح التعطش إلى تمزيق بعضهم البعض.

لماذا التركيز على الفيلسوف؟ لأنّ الفيلسوف هو طبيب الحضارة. والإنسان المعاصر، مصر بشكل بائس على عدم الاعتراف بأمراضه الكثيرة، وفوق هذا يصد كل محاولات الشفاء. الإنسان المنحط هو الذي يُظهر بهجته البائسة لإخفاء كلّ أعطابه.

الإنسانية أولى من السياسة

تنشأ السياسة، إذا ما عُدنا إلى التعريف التي قدّمته الفيلسوفة الألمانية حنة آرنت، كتدبير للعلاقات بين النّاس، لأجل الاتفاق حول أرضية مشتركة تؤلّف بينهم، من داخل فوضى الاختلافات والفروقات التي تفرّق بينهم.

وتأسيسًا على هذا التعريف، فليست السياسة جوهرًا في الإنسان، بل هي تقع خارجه، أو هي بالأحرى تكون قد نشأت منذ اللحظة التي نشأت فيها العلاقات بين الناس في مستوياتها المُختلفة، عكس هؤلاء الفلاسفة الذين يدافعون عن نظرية بأنّ الإنسان حيوان سياسي بالفطرة.

تظهر السياسة كآلية تعمل على الحدّ من احتمالات التصادم والصراع بين النّاس. هذا إذا ما أخذنا بالجانب الإنساني في الفعل السياسي، في حين، أنّ السياسة بالنسبة لجهاز مثل الدولة، قد تتحوّل إلى مرجل للنفخ في رماد الاختلافات التي تدفع بالنّاس إلى التصادم، ولما لا إلى إثارة الصراعات الدموية القاتلة، وهذا حال الدول قديمًا وحديثًا. 

ولعلّ بسبب هذا الإرث التاريخي المأساوي من تجارب تدمير الإنسانية، هو ما دفع بآرنت إلى القول بأنّه لا يخلو حضور السياسة من شعورين متناقضين: الشعور بالخوف من تحوّل السياسة إلى وسيلة هدفها إبادة الإنسانية. والشعور الثاني هو الشعور بالأمل، الذي هو رؤية مثالية عن مجتمع بلا سياسة، أي أنّ الأمل المنشود هو بالتخلّص من السياسة وليس من الإنسانية.

ليست السياسة جوهرًا في الإنسان بل تقع خارجه، أو أنها بالأحرى وُجدت منذ اللحظة التي نشأت فيها العلاقات بين الناس في مستوياتها المُختلفة

إننا ننتمي إلى هذا الأفق الملبّذ بسحب الشؤم، بسبب غلبة السياسي على الإنساني، حتّى انقلبت منظومة القيم رأسًا على عقب، فصار ثمن السلم والسعادة يدفع بآلاف من القتلى وملايين من المهجرين والعدد نفسه من البؤساء الذين يقبعون وراء التاريخ.

 

اقرأ/ي أيضًا:

النضال من أجل "التفاهة"

"جدل الثقافة".. النقد في مواجهة أسئلة الكولونيالية وما بعدها