فيديو "سيدة العلمة".. كيف يُمزق الجهل نسيج المجتمع الجزائري بسُلطة السّحر؟

انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي مقطع فيديو يُعرف باسم "سيدة العلمة"، يظهر فيه مجموعة من المواطنين وهم يتهجمون على سيدة منقبة، متهمين إياها بممارسة السحر وكتابة طلاسم وعبارات سحرية.

هذه الحادثة رغم خصوصيتها ليست معزولة عن سياق عام أوسع، يتمثل في تصاعد هوس المجتمع بالشعوذة و "سُلطة السحر"

لكن كشفت التحقيقات لاحقًا أنّ "سيدة العلمة"، وهي مغتربة، كانت تنتظر انتهاء ابنتها من حصة السباحة، وكانت تستخدم مصحفها الشخصي لتدوين بعض الملاحظات والمراجع والترجمات، نظرًا لعدم إتقانها اللغة العربية بشكل جيد.

وقد تم توقيف ستة أشخاص على خلفية تصوير ونشر الفيديو، الذي تزامن مع حملة تطوعية لتنظيف المقابر، وهي الحملة التي رُبطت بشكل غير دقيق بممارسات السحر.

يبدو أنّ هذه الحادثة رغم خصوصيتها، ليست معزولة عن سياق عام أوسع، يتمثل في تصاعد هوس المجتمع بالشعوذة و "سُلطة السحر"، وما يُرافقه من أحكام مسبقة وردود فعل عنيفة تجاه أي سلوك يُفسَّر، ولو عن طريق الخطأ، على أنّه ممارسة للسحر.

إذا كانت "سيدة العلمة" ضحية اتهام خاطئ نابع من الخوف والجهل، فإنّ هناك قصص أخرى تُمثّل وجهًا آخر من الظاهرة نفسها، حيث تقود الضغوط النفسية والاجتماعية الفرد إلى تصديق أنّ السحر هو سبب مأساته، واللجوء لمن يزعم امتلاك مفاتيح "العلاج".

في قبضة العرّافة 

في صباح هادئ، أشعلت السيدة فاطمة شمعة بجانب ضريح سيدي عبد الرحمان، الواقع في أسفل مدينة القصبة بالعاصمة، ودعت الله أن يرزقها الذرية الصالحة. 

حينها اقتربت منها سيدة مُسنّة وهمست في أذنيها: "أعرف سيدة تجلب لك السعد والرزق في الأولاد، وتفكّ عنك السحر. السحر باين على وجهك"، في إشارة إلى أن ملامح السحر واضحة عليها.

تقول السيدة فاطمة، وهي ربة بيت في العقد الثالث من عمرها: "تمّ اصطيادي في ذلك الضريح، ومنذ تلك اللحظة انقلبت حياتي رأسًا على عقب".

وأضافت لـ" الترا جزائر" أنّ العجوز استغلت ضعفها النفسي، الناتج عن عدم إنجابها أطفالًا بعد عامين ونصف من الزواج.

تتابع: "في البداية كنت مترددة، أردت أن أشارك زوجي موضوع زيارة (الشوافة- العرافة)، لكنّني أخفيت الأمر عنه خوفًا من رفضه."

وأضافت المتحدثة قائلة إنّه في ظلّ التنمر والضغط النفسي الذي كانت تعانيه داخل عائلة زوجها، أصبحت مهووسة بفكرة إنجاب الأطفال، حتى لو كلفها ذلك زيارة السحرة والمشعوذين.

وواصلت: "تتلاشى قواك عند دخولك ذلك البيت المظلم، حيث تعمّ رائحة الكبريت والرصاص والدخان المتصاعد المكان، وتستنشق رائحة الأعشاب التي تستنفد كل طاقتك، وأنت واقفة أمام "الشوافة."

وأشارت إلى أنّ في غرفة الانتظار تُروى حكايات وقصص عن كيف تمكنت تلك العرافة من فكّ السحر الأسود والعقد و"الربيط"، ومساعدة النساء على الإنجاب بعد فترات طويلة من العقم.

بعد الحصة الثالثة أو الرابعة، قررت السيدة فاطمة إخبار زوجها بالأمر، إذ أن الموضوع بدأ يتطلب إنفاق مبلغ كبير من المال.

تابعت أنّ عائلتها وحياتها الزوجية تدمرت بالكامل بسبب بثّ الشكوك من قِبل العرافة، التي قالت إنّ مصدر السحر أحيانًا يكون والدة الزوج، وأحيانًا أخته، وأحيانًا أخرى تعود أصول السحر و"الربيط" إلى عشيقة الزوج القديمة.

واختتمت حديثها بأنّها بعد توقفها عن زيارة "الشوافة" لمدة سنة، وبعد خضوعها لفحوص طبية مكثفة ومتابعة طبية دقيقة، تمكنت في النهاية من الإنجاب، وأنجبت توأمين.

ظاهرة معقدة

تعكس الكثير من القصص؛ كيف يمكن للهوس بالشعوذة أن يحوّل الشك والجهل إلى عنف جماعي، ويكشف عن هشاشة الوعي الاجتماعي والديني أيضا في التعاطي مع ظواهر غير مفهومة، غالبًا ما يُفسَّر فيها المجهول على أنه سحرٌ أو عمل شيطاني.

في هذا السياق، يتفق المختصون في علم الاجتماع على أن ظاهرة الشعوذة والسحر ظاهرة معقدة ومتجذرة في عمق المجتمعات المغاربية وشمال إفريقيا. 

وما يلفت الانتباه في الآونة الأخيرة هو الهوس والمبالغة المجتمعية، إلى جانب القلق الشعبي والشارعي المتزايد تجاه قوة الدجل والدجالين.
كما برز التناول الإعلامي المكثف لدور "الجن" والمشعوذين والعرافين في التأثير على حياتنا الشخصية وعلاقاتنا الاجتماعية.
وتجاوز الأمر ذلك، إذ قال أحد الرقاة في مقابلة إعلامية، إن "الجن وأتباعه" تدخلوا حتى في رسم نتيجة مباراة كروية لصالح فريق على حساب خصمه الرياضي.

هشاشة علاقات الاجتماعي

في سياق مرتبط، يرى مصطفى راجعي، أستاذ علم الاجتماع بجامعة مستغانم، أن القلق الشعبي والمجتمعي من ظاهرة السحر يكشف عن اختلالات مرضية في المجتمع، سواء على المستوى الفردي أو ضمن البنية المجتمعية ككل.
وأوضح لموقع "التر جزائر" أنّ الفرد الجزائري بات يعتقد أن مشاكله الشخصية أو العائلية غالبًا ما تعود إلى عداوات وخصومات من الآخرين، حتى من جانب القوى الغيبية.
وأضاف أنّ الجزائريين باتوا يظنون أن هذا "الآخر" يلجأ لاستخدام أدوات سحرية وحسية لإلحاق الضرر بالغير، وهو ما يُطلق عليه "الوسواس القهري".

  أستاذ علم الاجتماع مصطفى راجعي لـ" الترا جزائر": المبالغة في تفسير الأمراض النفسية والجسدية، مثل العقم، على أنها ناتجة عن السحر والشعوذة، تعكس هشاشة الروابط الأسرية والعائلية

وأشار راجعي إلى أنّ المبالغة في تفسير الأمراض النفسية والجسدية، مثل العقم، على أنها ناتجة عن السحر والشعوذة، تعكس هشاشة الروابط الأسرية والعائلية والمجتمعية، وانعدام الثقة بين أفراد المجتمع، سواء الصغير أو الكبير.
ولفت إلى أنّ هذا الهوس المجتمعي يعكس ظاهرة مرضية، حيث يعتقد الجميع أن المحيط العائلي قد يكون السبب في إصابة أحدهم بأضرار جسدية ونفسية، تؤدي إلى أمراض خطيرة كالسرطان، أو مشاكل في الإنجاب، أو خسائر في التجارة والأعمال.
وأضاف أنّ هذه المعتقدات قد تفسر ارتفاع معدلات الطلاق والخلع، وتفتت الروابط الأخوية، وازدياد النزاعات القانونية المتعلقة بالأصول في المحاكم.

تفاقم الأزمات الاقتصادية 

أشار البروفيسور والباحث سليمان بومدين من جامعة سكيكدة إلى أنّ الإيمان بسلطة الجن والطقوس الغيبية السائدة في مجتمعاتنا هو في الحقيقة اضطراب نفسي، مرتبط غالبًا بالاكتئاب، ويُعرف علميًا باضطراب ثنائي القطب.

وأوضح أنّ الفرد قد ينتقل من حالة النشوة والزهو إلى حالة الاكتئاب والحزن الشديد، وقد يكون لتأثير الظاهرة الغيبية (السحر) دور فعال في هذا التحول النفسي.

وبشأن السحر كظاهرة اجتماعية، كشف الباحث لـ"التر جزائر" أنها ممارسة ثقافية واجتماعية ذات أبعاد تاريخية معقدة، موجودة حتى في المجتمعات المتقدمة.

الباحث سليمان بومدين لـ" الترا جزائر": تزايد الهوس بهذه المعتقدات الغيبية يعود في المقام الأول إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية، وانتشار الفقر والجهل، بالإضافة إلى حالة عدم الاستقرار وتردي الأوضاع الاقتصادية

وأضاف أنّ تزايد الهوس بهذه المعتقدات الغيبية، مثل سلطة الجن على البشر وقدرات "الشوافة"، يعود في المقام الأول إلى تفاقم الأزمات الاجتماعية، وانتشار الفقر والجهل، بالإضافة إلى حالة عدم الاستقرار وتردي الأوضاع الاقتصادية.

مخاطر الترويج لخوارق السحر

وسط حالة التهويل التي حدثت حول موضوع السحر، وبعد الاعتداء على "سيدة العلمة"، أجمع أئمة وخطباء المساجد على أن المبالغة في الحديث عن السحر وقدرات السحرة تمس بالعقيدة الإسلامية، إذ "تُعد نوعًا من الشرك بالله إذا ما تم التسليم بأن الساحر يعلم الغيب أو يملك القدرة على التأثير في حياة الإنسان".

كما أشاروا إلى أنّ علاقات زوجية وعائلية عديدة انهارت بسبب الوسواس القهري والخوف من السحر، مع الدعوة إلى التمسك بالتعاليم الدينية الصحيحة، والحذر من الانسياق وراء الدجالين.