حين يغطّ المسؤولون عن الثقافة في الجزائر في سبات لا ينتهي إلا بحلول مهرجان أو تظاهرة ثقافية ترعاها الدولة وتسخّر لها الأموال والجهود، وحين يقترن الفعل الثقافي بالمناسبات، وحين تصبح الثقافة حكرًا على مدن معينة دون غيرها، فإن الشعب قد يتولى شؤونه ويحل محل السلطات ليخلق لنفسه مساحة ودورًا في الحياة الثقافية. وذلك ما قام به سكان قرية "أث عيسى" بمدينة بجاية شرقي الجزائر العاصمة، حين أطلقوا مبادرة فريدة من نوعها، أثمرت بعد 4 أشهر من العمل أول مسرح في الهواء الطلق تبنيه سواعد المواطنين لوحدهم دون أي تمويل حكومي.
أطلق سكان قرية "أث عيسى" الجزائرية مبادرة فريدة أثمرت أول مسرح في الهواء الطلق تبنيه سواعد المواطنين دون تمويل حكومي
المشروع أطلقته جمعية "ثاذوكلي" التي تنشط في القرية، والتي تبنت عملية تحويل مكان مهجور وسط غابة إلى مسرح في الهواء الطلق يسع 700 شخص، يكون متنفسًا للعائلات ومكانًا لإقامة الفعاليات الثقافية المتنوعة التي من شأنها إضفاء حركية تضع حدًا لحالة الركود الثقافي الذي صار ميزة العديد من المناطق في الجزائر.
اقرأ/ي أيضًا: الثقافة الجزائرية: حين تصير الرداءة منظومة حاكمة
وتولّى التخطيط والتمويل والبناء متطوعون من سكان القرية ومن خارجها، رجالًا ونساء، حيث تظهر صور، تداولها الكثيرون عبر مواقع التواصل الاجتماعي، نساء يساعدن في عملية البناء يدًا بيد مع الرجال، فالمشروع أكبر من مجرد مسرح، إنه تحد ورهان وجب على الجميع المساهمة فيه. لقد كان بناء المسرح فرصة لإحياء تقليد "التويزة" (معناها التعاون وهي موروث ثقافي أمازيغي جزائري يتم فيه تجمع وتعاون جماعة من المجتمع أو القرية من أجل المساهمة في إنجاز عمل خيّر) حيث يشارك الجميع في عملية البناء كل يوم جمعة، ليتم بناء المكان من خلال 30 "تويزة" دعت إليها الجمعية.
تعرف بجاية منذ القدم بأنها كانت منارة علم، ومحطة حضارية تداولت عليها شتى الأجناس، لذلك اختار القائمون على المشروع أن يكون البناء على شاكلة المسارح الأثرية مفتوحًا ومشيًدا بحجر خاص، مما يجعله يظهر وكأنه مسرح روماني عتيق، أو صرحًا من زمن الإغريق.
اختار القائمون على بناء مسرح "أث عيسى" أن يكون البناء على شاكلة المسارح الأثرية مفتوحًا ومشيًدا بحجر خاص
وقد بدأت الجمعية تنظيم تظاهرات فور الانتهاء من بنائه يوم السادس عشر من حزيران/يونيو الماضي، وتم تدشينه باحتضان النسخة الثالثة لليالي المسرح، أين تم عرض مسرحيات وعروض فنية عرفت توافدًا جماهيريًا معتبرًا لاكتشاف هذا المسرح الذي صنع الحدث خاصة لدى رواد مواقع التواصل الاجتماعي التي اتخذتها الجمعية كبوابة للتعريف والترويج للمشروع واستقطاب المتطوعين والممولين، حيث يتم دوريًا نشر صور لسير الأشغال.
اقرأ/ي أيضًا: المؤسسات الثقافية في الجزائر كأداة لخدمة النظام
وقد قاربت تكلفة الإنجاز 15 ألف دولار كلها كانت مساعدات من جهات خاصة دون أي دعم حكومي يذكر. وقد حرص القائمون على أن يحافظ المسرح على طبيعة المكان وسط أشجار الصنوبر ليكون بذلك كما أرادوه "فضاءً بيئيًا ثقافيًا".
"أث عيسى"، هذه القرية الثورية المعروفة بنضال أبنائها إبان ثورة التحرير، والتي كانت دروبها الوعرة مقبرة لجنود المستعمر، تواصل اليوم صناعة البطولات وإعطاء الدروس لكن بطريقة مختلفة، ويشق أولادها الأوفياء طريقًا ليكونوا مصدر إلهام لباقي الجزائريين للنهوض بالثقافة في القرى والمدن الصغيرة وعدم انتظار هدايا من الحكومة التي قلصت من ميزانية قطاع الثقافة وسحبت الاعتماد من عديد المهرجانات المحلية بسبب القحط الذي تعرفه الخزينة في زمن السقوط الحر لأسعار النفط. صورة رائعة في المواطنة الفعّالة وإشعال الشموع في وقت يتفنن فيه الكثيرون في شتم الظلام.
اقرأ/ي أيضًا: