15-أغسطس-2022
صورة تعبيرية (Getty)

صورة تعبيرية (Getty)

"نجوّزُوا الوقت"، عبارة تشدّ السّامعين، في المقاهي والأرصفة والشّوارع الجزائرية، في النّوادي وفي أماكن العمل، تقولها موظّفة لزميلتها أو موظّف لزميله:" رانا نجوّزوا في وقتنا" أي ننتظر حتى يمرّ الوقت، وهي عبارة تحمل معاني تمضية الوقت أو بشكل أعمق للعمر.

يعلق البعض على الموظّف المجتهد بعبارة "راك تزيد عليها"، أي أنك تبذل جهدًا في العمل لا يعود عليك بأيّة فائدة 

عِبارات كثيرة في لغة الجزائريين الشّعبية لها دلالات مختلفة عن الوقت وفيما يقضيه الفرد في اليوم، إذ يُنظر لمن يستثمِر وقته في العمل بجدّ وكدّ بأنّه"يغلّي الشّربة على أصدقائه" أي أنه يبرِز عجزهم في العمل، أو يوصف بأنهم " يحرثوا عليه" أي أن ربّ العمل يستغلّه أبشع استغلال مثل عملية الحرث وتقليب الأرض لأجل الزّرع والحصاد، حتّى وإن كان حبّه للعمل شغف ليس إلا.

" نخدم قِيس دْراهمي"، عبارة أخرى كثيرًا ما يتفوّه بها الموظّفون في مختلف القطاعات، أي " أشتغل بجُهد يعادل أجرتي لا زيادة ولا نقصان"، حتى من يحاول أن يتجاوز هذه القاعدة أو هذه الطريقة في التعامل بين طرفي المعادلة: (الموظف وعمله)، يعلِّق عليه البعض وربما أيضا بتهكّم: "راك تْزِيد عْليها" أي بمعنى أنّك تضيف مجهودًا في العمل لن يعود إليك بأيّة فائدة"، وهي الكلمات التي يمكنها أن تثبِّط العزيمة وتكبح جماح رغبة العمل والإبداع فيه.

تتضح أهمية الوقت بشكل لافت في الإدارة عمومًا، أي في المهن التي ينجلي فيها العمل بتوقيت محدّد لزمن الدخول لمكان العمل وتوقيت الخروج منه، فيما يتجلّى أكثر فأكثر في الأعمال ذات الصِّبغة اليدوية وخفّة الأشغال وسرعة الإنجاز وتسليم المشاريع، بينما تنفضح أهمية الوقت وطريقة استغلاله في الأعمال الإبداعية التي غالبًا ما تكلِّف الشخص الكثير من الجهد العقلي والتفكير لإخراج قِطعة فنية تحتاج الرّشاقة في التفكير والكتابة مثلًا والأناقة في التزيين أو التّمتين، كتوابل تعطي لها نكهة ولذّة، وغيرها من الأعمال الخاصة بالفنون بمختلف مجالاتها.

لعبة نهاية الشّهر

في العام الرّابع والخمسين من عمره انتبه عبد الكريم رحماني الموظَّف في مركز بريدي بمنطقة درقانة شرقي العاصمة الجزائرية للزمن أو بالأحرى لذلك الوقت المهدور منذ أن وطأت أقدامه الإدارة، إذ قال إن الوقت تسرّب بين يديه كالرّمل، من الدقيقة للسّاعة ومن اليوم إلى الشّهر السّنة إلى العقد من الزّمن بذهنية الموظّف الذي ينتظر نهاية الشّهر ليقبض الأجرة أو نهاية الخِدمة ليقبض تقاعده.

"لعبة الوقت مُعضلة"، هكذا يصف السيد رحماني (أب لأربعة أطفال) تلك السنين التي أهدرها بين مكتب وأوراق، موضحًا لـ"الترا جزائر" بأن الوقت ملك للدّولة وليس للمواطن أو الموظف، بل هي "معادلة صعبة الحلّ فأي موظف ينتظر أجرته نهاية الشّهر ويشتغل في إدارة معينة، وقته هو ملك للمسؤول الأعلى منه درجة، إذ أحيانًا يمرّ الوقت دون أن يقدّم خِدمة أو يعكف على أي عمل أو توكل له أيّ مهمة".

يتفق البعض مع هذا الطرح، أو هذه الحقيقة المعاشة، إذ "الوقت ملك للدولة"، فهي منظومة قيم علّمت الجزائريين زمن الريع البترولي ألاّ يولون اهتمامًا بالوقت ومدى فعاليته وأهميته، بلغة الشارع الجزائري: "تخدم خالص ما تخدمش خالص".

ووفق ذلك، يبرّر عزيز مليكشي طالب دكتوراه فلسلفة من جامعة وهران لـ" الترا جزائر" بأنّ هناك نموّ لعقلية تربّت على الريع والدّولة الاجتماعية، وبالتالي لا يعطي الفرد أي قيمة للزّمن بل يسرِقه كمن يسرق بضع ساعات في الأسبوع في قضاء حاجياته من زمنه الحقيقي في وظيفته، كما يُعطي لنفسه مبررات أغلبها واهية. 

من الذي يعمل؟

يتصوّر البعض أن هناك قصة عداء كبيرة بين الفرد الجزائري والوقت، بل هناك خُصومة بينهما لم تحلّ، إذ تتّضح جلية في جلسات الشّباب والكهول وكبار السنّ في المقاهي لساعات من الزمن، وفي الأرصفة وأمام أبواب العمارات، بل هناك من تساءل عن الازدحام المروري في كلّ وقت وخاصة في ساعات العمل بالقول:" إن كان الجميع في الشّوارع فمن الذي يعمل؟".

هذا السّؤال كثيرًا ما يتكرر وتطرحه الألسنة، إذ يعتقد البعض أنّ العمل والوقت وجهان لعملة واحدة، أما الإنسان فهو العملة الوحيدة التي تخسر قيمتها كل لحظة وثانية وساعة ويوم بسبب ضياع الوقت.

من الناحية الاجتماعية، جعلت التّنشئة من الفرد الجزائري يتطلّع لقيمة ما بعد العمل وليس لقيمة الوقت الذي يمرّ أثناء العمل، بسبب مخلّفات سياسة الرّيع المالي الذي استمرّ لعُقود من الزّمن بفضل نعمة الثروات الطبيعية (البترول والغاز).

أما اقتصاديًا فينظر الكثيرون إلى أن الوقت إما كونه مصدر استهلاك أو مصدر استثمار والفرد يتأرجح بينهما، إن استهلك وقته في عمل أو استثمَره في أمر مثمر كبذرة تنمو بالعناية، كما ذكر الخبير في الإدارة عبد العزيز مسراتي "بالمختصر تربّى الانسان الجزائري على الخصُومة مع الوقت أو بالأحرى كأنه عدوا للوقت".

الأكثر من ذلك يرى محدِّث "الترا جزائر" أن الإدارة أو الوظيفة تسرِق العُمر والموظّف يسرق الوقت، فكيف ذلك؟

يتحدث مسراتي قائلًا بأنه قّضى سنوات بين عدّة مؤسّسات عمومية، وأخرى خاصة في عدة مناطق الجزائر، إذ لاحظ أنّ هناك جدلية بين الفرد والعمل، إذ يعود إلى العبارة التي سبق وأن أشرنا إليها "يجوّزوا في الوقت" في مقابل ذلك تقتل الإدارة أعمارهم يوميًا دون تطوير ورسكلة وتكوين، حدّ تعبيره.

وشرح ذلك بقوله: "هناك من يدخلون مكاتبهم بعد توقيت الدّوام الصباحي، وهناك من يخرجون من المكاتب قبّل نهاية أوقات العمل أيضًا".

لا يختلف البعض في توصيفهم للوقت، فيراه أغلبية الناس أنه " أغلى ما يملك الإنسان، ويتمنون عدم رحيله، رغم أن ذلك الأمر مستحيل" إذ قال كريم علواني مدير مدرسة شارف على سنّ التقاعد لـ" الترا جزائر" أن "الوقت كنز حقيقي لا نخبره إلاّ عندما لا نستغلّه استغلالًا جيّدًا".

توظيف الوقت بشكل متاح غير مطروح في العقلية الجزائرية، كما يردد البعض فالحالات التي تعطي أهمية للوقت قليلة جدًا، في القطاع العام، بينما يتأرجح القطاع الخاصّ "بين موظف يشتغل وآخر يوهِم نفسه بأنّه يشتغل".

هذه الحالة نجدها في عديد القطاعات بشكليها الحكومي والخاص، بينما الذي يشتغل لحسابه الخاص فالوقت عنده "كالسيف إن لم تقطعه قطعك".

بعيدًا عن مجال الوظيفة يوجد فائض من الوقت لدى حالات أخرى مثل حالة السجناء الذين يقضون عقوبة طويلة 

عكس الحالات السابقة، الزمن كمادة حيوية متوفّرة لدى بعض الفئات بشكل فائض، إذ يرى السجين أنّ الزمن متوقّف، بل يعيشه كزمن ضائع لأنه محصور في أيام الانتظار يمرّ من خلاله سنوات طويلة إلى باب المخرج بين عالق وحياة جديدة، بل يبدأ العدّ التنازلي للدقائق والساعات إلى غاية لحظة الإفراج.