05-ديسمبر-2019

صورة لغلاف كتاب "يوميات رجل أفريقي"

يقول موريس بلانشو إن السّؤال عن زمننا هو سؤال متواصل بدون انقطاع، بل إن التساؤل نفسه هو جزءٌ لا يتجزّأ من الزمان. إنّ الانخراط في التساؤل هو طريقة للهروب من داخل الصخب العميق الذي ولدته معرفتنا بالعالم، والشعر أحد تلك المسالك نحو معرفة العالم.

يعترف خالد بن صالح بأنه ينتمي إلى جيل اليأس، جيلٌ هو ضحية تناقضات المجتمع

الشعر هو إذًا وليد هذه الحساسية اتجاه الزمن، التي تتأسّس على إدراك الشاعر بزمنيته التي تشكّل من خلالها. وكتاب الشاعر الجزائري خالد بن صالح "يوميات رجل أفريقي"، ألقى بالشعر في قارعة التاريخ، وقذف به في نهره المتحرّك.

اقرأ/ي أيضًا: قراءة في كتاب فلاديمير ماكسمينكو.. مصائر النخب المغاربية

ما جعلني أبدأ بمدخل كهذا، هو قراءتي لنصوص خالد بن صالح الشّعرية، التي أصدرها في كتاب أنيق بعنوان "يوميات رجل أفريقي يرتدي قميصًا مزهّرًا ويدخّن LM في زمن الثورة"، عن منشورات  المتوسط 2019، فكان أوّل سؤال واجهني به أحد القراء، وأنا أنشر شذرة من أحد نصوصه، هو: هل ما كتبه خالد بن صالح هو شعر؟ وهل يُكتب الشعر على شكل فقرات؟

لكن في هذا الظرف التاريخي، ستبدو هذه الأسئلة بلا أيّ معنى، أقصد سؤال الماهية والتعريف، لأنّ ما يبدو طارئًا هو الإجابة عن هذا السؤال: ما الذي يمكن للشعر قوله في زمن التحوّلات الكبرى؟ وهل تؤدّي الانعطافات التاريخية الكبرى إلى انعطافات شعرية تغيّر شكل الشّعر وروحه؟

 سؤال كهذا يعني القارئ أيضًا، لأنّ قراءة الشعر في هذا الزمن بالذات "زمن الحراك الشعبي"، قد تجسد إحدى فوائد القراءة التي تحدّث عنها هارولد بلوم في كتابه الممتع "كيف نقرأ ولماذا؟" وهي: أن نُعدّ أنفسنا للتغيير. ألسنا نلاحظ هنا بأنّ فكرة التغيير تطرح نفسها ضمن أفق التلقّي نفسه؟ وأكيد سيردفها سؤال آخر: تغيير ماذا؟ أفترض أنّ الأمر يتعلّق بمستويين من التغيير: تغيير رؤيتنا للعالم، وتغيير رؤيتنا للشعر نفسه. وبتعبير خالد بن صالح في إحدى نصوصه الأخيرة: الشعر هو أن تكسّر المزهرية العتيقة.

إنّ ما يبدو مُلفتًا في "يوميات رجل أفريقي"، هو بلاغته المتحرّرة من الكُلفة، فقد كتب عن بلاغة الهامش واليومي، والمُبتذل، بما يُوحي بأنّ وظيفة الكتابة الشعرية هي استعادة الشعر لموقعه التاريخي، بحيث يلتقط التفاصيل العابرة، التي وحدها تحمل طاقة شعرية على إنتاج المعاني والدلالات.

أفول الأساطير.. أو نهاية عصر السذاجة

ما يظهر جليًا في نصوص خالد بن صالح هو سطوة الزمن على رؤيته الشعرية، جسّدها عبر موقفه النقدي من الأجيال السابقة في إطار صراع الأجيال الذي حاول الشاعر أن يُبرزه عبر نصوصه. ستغدو الكتابة الشعرية ذات أثرٍ تدميري على الأساطير التي ترسّخت في مخيال الأجيال في الجزائر، مثل أسطورة جيل السبعينات بيوتوبياته الاشتراكية، وجيل الثمانينات الذي احتفظ بانتصاره الأسطوري كرويًا على ألمانيا في واقعة خيخون التاريخية. وليس غريبًا أن يبدأ مؤلّفه الشّعري بجملة لاذعة: "لم نعد سُذّجا".

الجملة مهمّة جدًا، على قِصرها، لأنها ستساعدنا لفهم الرؤية الشعرية في كتاب يوميات رجل إفريقي؛ لماذا؟ لأنّ وظيفة الشعر عند خالد هو إخراج الإنسان من حالة السذاجة الأنطولوجية والتاريخية، وهي دعوة إلى التحرّر من الأوهام التي شيّدتها الأجيال السابقة، كما لو أنّ أكبر إنجاز لها هو الإخفاق في اختيار الذوق السليم "جيل السبعينات" والانتصار على ألمانيا في كرة القدم، دون شيء آخر. أما الواقع فيقول بأنّ الأزمات التي يعاني منها جيل اليوم يتحمّلها الجيل الذي سبقه، ويتحمّلها من ظلّ يردّد دون ملل تلك الأوهام الأسطورية. يقول عبد الله العشي: "الكتابة الجديدة تعبّر عن قلق، قلق يتجاوز الشّعر إلى المُجتمع. مجتمعنا يبدو من وضعه المورفولوجي مليئًا بالتناقضات. الانسجام فيه نادر في القول والفعل، في المأكل والمشرب، في الملبس والمركب، وفي العادات والعبادات. أمّا في وضعه الداخلي فما زال مهزومًا مشلول الإرادة، يعتمد على الآخر في تبعية كاملة، لا خبرة لدى الحاكم ولا بصيرة لدى السياسي ولا حكمة لدى المثقّف، ولا رؤيا لدى الشاعر". ( فقه الشعر، ص73)

لقد اعترف خالد بأنه ينتمي إلى جيل اليأس، جيلٌ هو ضحية تناقضات المجتمع، شهد انهيار جميع السرديات الكبرى التي شيّدتها الأجيال الماضية (لقد تحوّل التاريخ إلى حدث أسطوري). لكنه أيضًا جيل ما بعد العشرية السوداء الذي سقط أيضًا في وهم أنه تحرّر أخيرًا من شبح الموت، ليقع في دورة جديدة من دورات الإخفاق. جيل وقع تحت تأثير أنواع كثيرة من المسكّنات، ويذكر منها خالد كرة القدم. وهذا الجيل لم يع بأنّه من وراء الكرة، كانت الديكتاتورية البوتفليقية تنمو وتتناسل وتتشعّب وتتجذّر.

أشباح أكتوبر

وحده اليأس يُشعل فتيل الثورة. وكل ثورة ما هي إلا تعبير عن اليأس الجماعي. هناك سؤالٌ ضمني طرحه خالد في أحد نصوصه: هل الحراك اليوم هو امتداد لحراك تشرين الأوّل/أكتوبر 1988؟ لقد انفتحت ذاكرة النصوص على يوميات ثورة قُمعت في مهدها، وانحرف نهرها بعيدًا عن مصبه الطبيعي، قبل أن يصبّ في مستنقع الحرب الأهلية التي دمّرت ثقة الجزائريين في كل شيء.

يهمّني كقارئ أن أفهم الوعي التاريخي عند الكاتب، وتحديدًا رؤيته لثورة أكتوبر. فلم يكن أكتوبر إلا ثورة الجائعين، وثورة على الوضع المتردّي، وعلى البطالة، والإقصاء والتهميش والبيروقراطية. ولسان حال الشاعر: ما الذي تغيّر منذ ذلك اليوم؟ ألا يبدو الحراك اليوم كأنه العودة إلى نقطة البداية، في الدورة التاريخية نفسها؟ تبدأ الثورة في شكل أحلام، وتنتهي من صورة خيبة.

 يبدو أنّ التاريخ عند خالد يتحرّك وفق شكلٍ دائري، فاليوم نشهد ثورة شعبية للأسباب نفسها تقريبًا؛ البطالة، غياب العدالة، البيروقراطية، الجوع، القهر، الفساد، الظلم.. إلخ.

لقد رسم لنا خالد صورة رمادية لسماء ذلك اليوم، فهو يدعونا إلى تخيّل المشهد: دخان أسود يصّاعدُ إلى السماء ليغطي وجه المدينة، ومدرّعات عسكرية تحمي قصر الحكومة من عدوٍّ غير مرئي. هل يريد أن يقول لنا إنّ وجه التاريخ، ذلك المساء الخريفي، هو كوجه السماء الرمادية والملبدّة؟ أم كان يرسم لنا صورة المستقبل الذي كان هو الآخر سماءً مغيمة؟

أمّا عن الدبابات فلم تكن  تحاصر قصر الحكومة فقط، بل كانت تحاصر مستقبل جيل يتيم، كان يبحث عن الكرامة، ليلقى به في نار الفتنة، ويدفع الثمن باهضًا. إنّ الشاعر وريث ذاكرة مثقّلة. "ليس هناك ما يخفف عناء الطريق، الذكرياتُ ثقيلة كحقائب" (ص 26 )

لا يتوقّف خالد عند مشهد المدينة في ذلك اليوم التاريخي المشهود، بل تذكّر ذلك الشاب الذي فجّرت رصاصة رأسه، وهو يُطالب النظام بدولة القانون والحرّيات والديموقراطية. شاب لا نعرف عنه إلا أنه ضحية النظام. قد يكون الحراك اليوم بطريقة ما تكريمًا لدماء هذا الشاب المجهول، حتى لا يذهب موته سدًى.

خالد بن صالح

لكن، ما الذي جاء بعد تشرين الأوّل/أكتوبر 1988؟ لقد سقطت الجزائر في ثقب أسود، ثقب الأصولية وصراع العُصب على السلطة، فضاعت جميع الأحلام، ودخل الجميع في نفق الرعب، حتى أنّ "الكتب عادت لتخاف عناوينها" ( ص27)

ولأجل إبراز عنف المرحلة مارس خالد بن صالح انزياحًا عنيفًا وذكيًا لمدلولات الكلمات، حيث تغدو مفارقة لمعناها الأصلي، مجسدة مقدرته على التصوير الفني من خلال خلخلة علاقة الكلمات بالأشياء. "هكذا بدت لفافة ورق التواليت كتقرير سرّي لحروب لم تقع. الصحون في المطبخ شواهد قبور منسية. صنبور الماء صفارة إنذار معطلة، منفضة السجائر لغم دائم. سروال الجينز المعلّق على حبل الغسيل نصفي المعطوب" (ص27).

لفافة ورق التواليت: تقرير سري. الصحون: شواهد قبور. صنبور الماء: صفارة إنذار. نفاضة سجائر: لغم دائم. سروال الجينز المعلق: النصف المعطوب في روح الشاعر. وهنا يعجبني أن أستحضر مقولة لهارولد بلوم: "القصيدة حفلة راقصة للبدائل" (هارولد بلوم: الشعر والتعددية والكبت، ص 334).

شعرية اليومي.. أو كيف نُخرج الواقع من لامرئيته؟

هناك عين ثاقبة يكتب بها خالد، يرى بها تلك التفاصيل الهاربة التي من فرط ألفتها لم نعد نراها؛ فالمبتذل هو ذاك الشيء الذي تخفيه العادة، فيصير لامرئيًا. الكثير من نصوصه احتفت بأشياء اليومي، وحوّلها إلى موضوعات شعرية: قهوة الصباح، ساعة المدرسة، الكتب المبعثرة في الغرفة، الدبّ المرسوم على قميص ( تيشرت) الطفل الصغير، أكياس القمامة، العداد الكهربائي.. إلخ.

وفي المقابل، يُعلن خالد أنّ الشعر هو أن يلغي الشاعر خلفية الكتب التي تجسّدها مكتبة البيت، لصالح ما يقع خارج المكتب من صخب وحياة وحركة. الشعر لا تؤسّسه الكُتب. يعطينا الشعر ما هو أكثر من المتعة، أي يمنحنا معرفة أوسع بالحياة، إنه بتعبير توماس سترينز إليوت يوسّع مجال وعينا.

في رثاء الإنسان اللامبالي

في نص يقول خالد بن صالح: "تحت رحمة كبسة زر واحدة، لا تختلف بين من يُطلق صاروخًا فوق المباني، وبين من يمسح بإصبعه على الشاشة ليمرّ إلى خبر آخر، دون اكتراث، وبذاكرة تتقلّص، مثل حديقة تنهش عشبها الرمال". (ص71)

نقرأ من خلال هذا النصّ، رؤية إنسانية لواقع الإنسان اليوم، حيث الحروب تصنع يومياته، وتغير من علاقة الإنسان بالموت. من فرط الموت أصبح هذا الأخير حدثًا عاديًا وبسيطًا، نقرأه في نشرات الأخبار، قبل أن نغير القناة أو الموقع بحثًا عن خبر آخر. لا فرق بين الذي يقصف مدينة، وبين من يمرّ على خبر ضحايا هذا القصف؛ فالعالم الذي يفضحه خالد هو عالم بلا أفق إنساني، فقد الإحساس بالإنسان، وأضاع القيمة والمعنى. أمام لا مبالاة العالم، يقف الشعر ليواجه هذه البشاعة، ويرفض الوضع الذي آل إليه الإنسان المحجوز داخل شرنقته الافتراضية؛ الشعر هو الوعد بالإنسانية المهدّدة بالانقراض. هو ما تبقى من ذاكرة الإنسان، وقد أخذت حوافها تتآكل.

الشاعر خالد بن صالح

الوعي أو تلك المزهرية الهشة

لم يغب الحراك عن نصوص خالد، بل يبدو الكتاب ككلّ، نصًا حراكيًا حاول خلاله الكاتب قراءة الحدث من زاوية الشّعر. يهمّني أن ألتقط اللحظات الأكثر شعرية في نصوص الحراك، فإذا بي أتوقّف منبهرًا أمام هذا التصوير للوعي، حيث يصوّر في صورة مزهرية عتيقة. ليس الحراك إلا تكسيرًا للوعي الزائف الذي نشأ داخله جيل بأكمله، لهذا فإنّ أكبر حدث وقع للشاعر هو كسره للمزهرية العتيقة التي في غرفته، تلميحًا ذكيًا منه للحظة الخروج من الوعي القديم، وسأربط هذا التصوير بأوّل جملة في هذا الكتاب "لم نعد سذجًا"، والخروج من عصر السذاجة لا يكون دون تكسير الوعي الساذج. الحراك إذًا هو الذي يهشّم داخلنا كل وعيٍ عتيقٍ وساذج.

من جهة أخرى، فإنّ الحراك قد قذف بالشعر إلى الشارع، تاركًا خلفه جيلًا من الشعراء الذين قتلهم القهر. كأنّ خالد يرى في الشعر الخلاص من ذلك القهر، مثل مسيح جاء إلى الأرض لخلاص البشرية من شرورها. إلا أنّ الانعطافة الكبرى في وعي الشاعر كانت الثورة على نفسه "خرجتُ في المظاهرة بصدر عار، أحملُ لافتة ضدّي" ( ص 91). في هذه الجملة، يصوغ خالد بيانًا عميقًا للثورة؛ هل هناك ثورة دون أن يكون هناك انقلاب للذات على نفسها؟ ألسنا نثور في آخر المطاف على أنفسنا؟

نصوص خالد بن صالح، لا تصنّف إلا بكونها كتابة تتحرّك بين الشعر والسرد، ولو أنّي أميل إلى اعتبارها كتابةً مفتوحةً على بلاغة اليومي

إنّ نصوص خالد، لا تصنّف إلا بكونها كتابة تتحرّك بين الشعر والسرد، ولو أنّي أميل إلى اعتبارها كتابةً مفتوحةً على بلاغة اليومي، صوّر فيها دون تكلّف ما يُفكّر فيه الشاعر، وما التصق في ذاكرته من صورٍ، وما عاشه من هواجس في الحبّ والنضال واللامبالاة. نسيتُ في الأخير أن أشير إلى مسألة مهمّة: طيلة قراءتي لنصوص خالد لم تفارقني رائحة احتراق سيجارة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كتاب "العنف الاجتماعي في الجزائر".. قراءة في الغضب المتراكم والبؤس الثقافي

لماذا الحكايات في حياتنا؟