13-ديسمبر-2024
موسم جني الزيتون في الجزائر

يعتبر موسم جني الزيتون في الجزائر بمثابة عيد

 قد يبدو الأمر غريبًا، لكن في بعض قرى منطقة القبائل، تُنقل ملكية الأرض بين الأشخاص سواء عن طريق البيع أو الوراثة، إلاّ أنّ أشجار الزيتون في تلك الأرض تُعفى من عملية النقل أو البيع. ويُطلق على شجرة الزيتون في هذه الحالة مصطلح "أفاندو"، وهو تعبير مُحرّف من الكلمة الفرنسية Invendu، والتي تعني "ليست للبيع".

كأنه عيد

يرتبط سكان منطقة القبائل ارتباطًا وثيقًا بأرضهم وفلاحتها، وهي علاقة تنعكس بوضوح في موسم جني الزيتون. فمن النادر أن تجد أرضًا في تلك المنطقة لا تحتوي على أشجار الزيتون، ما يجعل موسم الجني هناك مناسبة تحمل الفرح والسرور، فالفترة الممتدة من تشرين الثاني/ نوفمبر حتى بداية كانون الثاني/ يناير تُصبح أشبه بعيد ينتظره الجميع بلهفة.

يرتبط سكان منطقة القبائل ارتباطًا وثيقًا بأرضهم وفلاحتها، وهي علاقة تنعكس بوضوح في موسم جني الزيتون. فمن النادر أن تجد أرضًا في تلك المنطقة لا تحتوي على أشجار الزيتون

على حافة الطريق الوطني رقم 5، وتحديدًا في منطقة إغرم بولاية البويرة، تبدأ الحركة غير المعتادة مع قدوم هذا الموسم. المنطقة مشهورة بمعاصرها التقليدية والحديثة، حيث يقوم أصحاب المعاصر بتنظيفها وتهيئتها لاستقبال أطنان الزيتون التي ستتحول في غضون أيام إلى "ذهب سائل".

وعندما تزور معصرة في وقت نشاطها، تستقبلك رائحة الزيتون في الخارج، بينما يعمّ عبق الزيت في الداخل. عند باب المعصرة، يضع صاحبها إناءً من زيت الزيتون المعصور حديثًا، وكلما نفد الزيت، يملؤه مجددًا، مرفقًا ذلك بطبق من الخبز أو المطلوع الساخن، لاستقبال الضيوف.

جني الزيتون في الجزائر

من جهة أخرى، تنشغل العائلات في جني الزيتون من شروق الشمس إلى غروبها. وتصبح الشجرة بمثابة بيت متنقل، حيث يتناول أفراد العائلة وجبة الغداء التي غالبًا ما يتم طهيها في المكان نفسه باستخدام حطب الزيتون، وتحت الزيتونة، يستلقي الشيخ لأخذ قسط من الراحة، بينما ينام الصبي تاركًا أمه تكمل عملية الجني.

جني الزيتون في الجزائر

بيعٌ وشراء

مع كل موسم لجني الزيتون، تظهر تجارة موسمية مزدهرة، تبدأ في الأيام الأولى من شهر تشرين الثاني/ نوفمبر، ففي الوقت الذي تخرج فيه العائلات إلى بساتينها وحقولها لجني محصول أشجار الزيتون، يظهر "باعة متجولون" من نوع خاص: سيارات "404"  الشهيرة، وشاحنات "الهاربين" الصغيرة، التي تجوب القرى والمداشر لشراء الزيتون وإعادة بيعه.

يُبرم هؤلاء الباعة صفقات مع أصحاب المعاصر أو العلامات التجارية، حيث يشترون الزيتون من الناس ليقوموا ببيعه لهم مرة أخرى بسعر يتأثر بمعايير الوفرة والجودة. وفي الوقت الحالي، بلغ سعر الكيلوغرام الواحد من الزيتون 140 دينارًا، وهو سعر قابل للانخفاض مع تزايد الإنتاج بعد خروج جميع العائلات لجني الزيتون، مما يزيد من توفره في "بورصة" الباعة.

جني الزيتون في الجزائر

داخل مقصورة الشاحنة، يحمل هؤلاء الباعة ميزانًا إلكترونيًا، ويضعون لافتة كبيرة مكتوب عليها "شراء الزيتون". ويطلقون صيحاتهم ويشغلون مزامير سياراتهم كلما اقتربوا من مكان يتواجد فيه أفراد العائلات الذين يجنون زيتونهم. ويُعتبر الأطفال أبرز الزبائن لهذه التجارة، حيث يُعد بيع كمية قليلة من الزيتون أول تجربة تجارية يتعلمها الطفل في منطقة القبائل، على سبيل المثال.

مقايضة

في منطقة القبائل، يُعد جني الزيتون من المهام الرئيسية التي تتولّى النساء مسؤوليتها، سواء في الماضي أو الحاضر، خاصة مع انشغال الرجال بالعمل خارج المنزل. لذلك، تجد في العديد من الصور التي تُحاكي موسم جني الزيتون في الجزائر، حضور النساء بشكل أكبر من الرجال.

جني الزيتون في الجزائر

تسهر النساء على عملية الجني من أول يوم إلى آخر يوم، حيث يستيقظن باكرًا لإعداد فطور الصباح ووجبة الغداء التي ستُحمل معهن إلى الحقل، ولا يعدن إلى المنزل إلاّ بعد المغرب، بعد أن يتولّى الرجال حمل أكياس الزيتون وتجميعها في فناء المنزل أو في مكان قريب.

في منطقة القبائل، يُعد جني الزيتون من المهام الرئيسية التي تتولّى النساء مسؤوليتها، سواء في الماضي أو الحاضر، خاصة مع انشغال الرجال بالعمل خارج المنزل

وتتمتع النساء بطقس تجاري خاص خلال موسم جني الزيتون، حيث تنتشر المقايضة بشكل واسع في منطقة القبائل. فربّة المنزل تقوم بشراء احتياجاتها مقابل الزيت من محلات تمارس هذا النشاط أو من نساء يبعن اللوازم في منازلهن. ومن المواقف الشائعة أن تجد إحداهن تجهل ثمن الثوب الذي ترتديه، لكنها تخبرك بأنها اشترته مقابل لتر ونصف من زيت الزيتون.

توصيل لباب المنزل

كما هو الحال مع العديد من السلع في السوق، أصبح زيت الزيتون جزءًا لا يتجزّأ من المنظومة التجارية والتسويقية في الجزائر. فقد تنوّعت أشكاله وأنواعه، وأصبحت العلامات التجارية تتنافس لكسب ثقة المستهلكين. لم يعد زيت الزيتون محصورًا في المعاصر أو لدى أصحاب الأشجار فقط، بل دخل إلى المحلات التجارية الكبرى وأسواق الاستيراد.

تماشيًا مع متطلّبات العصر، أصبح زيت الزيتون أيضًا منتجًا شائعًا في سوق التجارة الإلكترونية، حيث يمكن للمستهلك الآن اختيار نوعه وحجمه بلمسة زر، ويتم توصيله إلى أي مكان في الجزائر عبر شركات التوصيل.

تماشيًا مع متطلّبات العصر، أصبح زيت الزيتون أيضًا منتجًا شائعًا في سوق التجارة الإلكترونية

شريف، شاب من ولاية البويرة، بدأ منذ عامين في بيع زيت الزيتون عبر التوصيل، ويتحدث عن تجربته قائلاً لـ"الترا جزائر": "بعد كل موسم لجني الزيتون، تخصص عائلتي كمية لبيعها، وكان والدي غالبًا ما يمنح عائدات بيع الزيت لوالدتي، في طقس عائلي مشابه لما يسمى بـ"حق الملح" في عيد الفطر".

ويضيف: "كنت أعتني ببيع الزيت لأصدقائي في الدراسة والعمل، مما جعلني وجهة موثوقة لهم لشراء زيت الزيتون من مصدر موثوق".

جني الزيتون في الجزائر

ويشير شريف إلى أنّه في الكثير من الأحيان كان يضطر لشراء كمية إضافية من معاصر المنطقة أو من بعض العائلات، وهو ما دفعه للتفكير في تحسين هذا النشاط الموسمي. ومع خبرته في مجال التجارة الإلكترونية، بدأ في نشر إعلانات على "فيسبوك"، وقد حققت هذه الإعلانات نجاحًا كبيرًا.

يستقبل شريف طلبات من جميع الولايات، ويتم توصيل الزيت إلى الزبائن في غضون يومين، مع العديد من خيارات شركات التوصيل. ويكمل قائلاً: "أقوم بتعبئة زيت الزيتون في قارورات جديدة للحفاظ على جودته، وأرفقها بمعلومات حول منطقة الجني وتاريخ العصر لضمان الشفافية والموثوقية".

الثُمن و"أعمّال"

تواجه بعض العائلات صعوبة في جني زيتونها لأسباب مختلفة؛ مثل بُعد مكان سكنهم عن بساتين الزيتون أو انشغالهم في أعمال أخرى تجعلهم غير قادرين على تخصيص وقت لهذا النشاط الزراعي الهام.

في هذه الحالات، يظهر طقس اجتماعي مميّز في موسم جني الزيتون بمنطقة القبائل، وهو نظام يُشبه إلى حد كبير "المناولة" في المشاريع الصناعية، يُطلق عليه اسم "أعمّال"، حيث يُوكل صاحب الزيتون مهمة الجني لشخص آخر، وتُحسم المقابلة بعد الاتفاق بين الطرفين، فلا يكون المقابل ماليًا بل يتقاسم الطرفان المحصول من الزيتون أو الزيت.

يظهر طقس اجتماعي مميّز في موسم جني الزيتون بمنطقة القبائل، وهو نظام يُشبه إلى حد كبير "المناولة" في المشاريع الصناعية، يُطلق عليه اسم "أعمّال"، حيث يُوكل صاحب الزيتون مهمة الجني لشخص آخر

في غالب الأحيان، يتقاسم صاحب الزيتون مع العامل المحصول بالتساوي، حيث يحصل صاحب الزيتون على نصف المحصول بينما يحصل العامل على النصف الآخر.

بعد انتهاء مهمة الجني، تنتقل المرحلة التالية وهي عملية العصر، حيث يتم تحميل أكياس الزيتون في شاحنات أو جرارات فلاحية، ويتم نقلها إلى المعصرة. هنا، يحدث طقس آخر يتعلق بالحصة التي يتلقاها صاحب المعصرة من الزيت. في منطقة القبائل، عادة ما تكون حصة المعصرة هي الثُمن من المحصول، رغم أنه في السنوات الأخيرة ظهرت بعض المعاصر التي تأخذ المقابل المالي بدلًا من ذلك، ولكن هذه المعاصر تبقى نادرة.