لم يكن من الصعب الوصول إلى منزل حمزة قارون بمدينة حيزر بالبويرة شرق العاصمة، هذه المدينة الصغيرة التي بدأت قراها التي تقع على سفوح جبل جرجرة تلتحف ثوبًا أبيض من الثلج. في مدينة عرش آث مدّور، يتعارف جميع سكانها فيما بينهم، لكن أربعة من أبنائها صاروا معروفين أكثر بعد اعتقالهم خلال مسيرات الحراك الشعبي.
حمزة قارون: أخبرت قاضي التحقيق أن الراية الأمازيغية جزءٌ من هويّتي
ساند سكّان المدينة أبناءهم وحاولوا بشتّى الطرق الضغط لإطلاق سراحهم بعد حبسهم ظلمًا، ليصدر الحكم من محكمة باب الواد بتبرئتهم من تهمة "المساس بالوحدة الوطنية"، وتستقبلهم المدينة الصغيرة بالبارود و
الزغاريد.
اقرأ/ي أيضًا: البراءة لخمسة معتقلين بسبب الراية الأمازيغية
ظروف الاعتقال
في يوم 19 يونيو/جوان، أطلق قائد الأركان أحمد قايد صالح
خطابه الشهير المانع لحمل الراية الأمازيغية في المسيرات، حيث وصف ذلك في الخطاب نفسه بـ "محاولة اختراق المسيرات ورفع رايات أخرى غير الراية الوطنية من قبل أقليّة قليلة جدًا، فللجزائر علم واحد استشهد من أجله ملايين الشهداء، وراية واحدة هي الوحيدة التي تمثّل رمز سيادة الجزائر واستقلالها ووحدتها الترابية والشعبية".
يومان بعد ذلك، كان هناك أربعة شباب قدموا صباحًا من البويرة إلى العاصمة للمشاركة في مسيرة يوم الجمعة، كانوا يتجوّلون في شوارع المدينة، وحين وصلوا بالقرب من ساحة كيتاني بحي باب الواد، كان الشاب حمزة قارون، 22 سنة، يحمل راية أمازيغية في حقيبة ظهره، أظهرها ليلتقط صورة مع أصدقائه في الشارع، لحظات فقط ووصل أفراد من الأمن الوطني واعتقلوا أربعتهم، ثلاثة منهم أودعوا الحبس الاحتياطي وأطلقوا سراح المرافق الرابع.
هنا، يُجمع حمزة وأصدقاؤه، في حديث إلى "الترا جزائر"،"أنّ ظروف الاعتقال أو الحجز لم تشهد أي تعسّف أو استعمال للعنف، "تمتّ معاملتنا بشكل جيّد أثناء اعتقالنا أو أثناء سجننا، تمّ التوضيح منذ البداية أن اعتقالنا كان بسبب حمل الراية الأمازيغية، ووجّهت إلينا تهمة المساس بأمن وسلامة الوحدة الوطنية".
أمام قاضي التحقيق
"أخبرت قاضي التحقيق، أنّني أرفع هذه الراية في كلّ مسيرة منذ انطلاق مسيرات الحراك الشعبي، كنتُ أرفعها أينما ذهبت، هي جزءٌ من هويّتي، ولا توجد في القانون أية مادّة تجرّم ذلك، فلماذا لم يُسجن من رفعوها في السنوات الماضية، هنا أخبرني قاضي التحقيق بأنّه من اليوم فصاعدًا بات رفع هذه الراية ممنوعًا. تمّ تأجيل محاكماتنا لمرتين، مرّة بسبب عدم الاطلاع على الملفّ والثاني نظرًا لإضراب القضاة".
في مقابل ذلك، يتحفّظ حمزة قارون وأصدقائه عن أمرين، أوّلهما أنّ محضر الاعتقال تغيّر قليلًا، حيث تم اعتقالهم في باب الواد في أولى ساعات الصباح، فيما دُون في المحضر أنّ الاعتقال كان على الساعة الثالثة زوالًا في مسيرة أمام البريد المركزي، "قد يكون الأمر وقع سهوًا بعد أن أحضروا معتقلين آخرين إلى المخفر"، أمّا الأمر فهو تساؤلٌ طرحه أحد المعتقلين، "كيف يتمّ اعتقالك، وإبقاؤك قرابة خمسة أشهر داخل السجن، لتتم تبرئتك من التهم بعد ذلك، وتخرج من السجن وكأنّ شيئًا لم يحدث. خمسة أشهر ليست بالأمر الهيّن في حياة الناس".
سجناء مميزون
منذ الأيّام الأولى في سجن الحرّاش بالعاصمة، كان السجناء يعاملوننا بطريقة مميّزة جدًا، لقد كانوا يحترموننا بشدّة، يسرد حمزة قصّة حدثت له مع أحد نزلاء سجن الحراش "كان يقول لي كلّ مرّة، هذه مجرّد غصّة ستنساها بمجرّد خروجك من هنا، كلنّا نعلم أنّ هذا ليس مكانك، أنت أتيت إلى هنا ظلمًا، أنت لم تقتل ولم تسرق ولم تشارك في جريمة، أنت هنا فقط لأنّك رفعت راية كنّا نراها في كلّ مكان قبل دخولنا إلى السجن".
يقول حمزة قارون "لم يكن من السهل أن يتجرّع شاب في بداية العشرينات مرارة البقاء داخل زنزانة مغلقة، بعيدًا عن الشمس والهواء، لكن مع مرور الأيّام بدأت حدّة الكآبة تتناقص، حيث كنّا نتلقى الدعم من سجناء وجدناهم هناك، شباب في مقتبل العمر ذهبوا ضحيّة أخطائهم، ونقص بصيرتهم، أو فقدوا أعصابهم في لحظة ضعف. قصص كثيرة وجدناها داخل تلك القاعات المغلقة، حكايات إنسانية لن تكفيها الكتب، كانوا يقاسموننا أكلهم، ولا يبخلون علينا بأيّة نصيحة، كانوا نعم السند لنا، ذات مرّة قاموا بمفاجأة أحد المعتقلين ونظّموا له حفلة عيد ميلاد داخل السجن".
يُضيف حمزة "بعد فترة، لم نعد نفكّر في أنفسنا، بل أصبحنا نفكّر في عائلاتنا التي تعيش قهر غيابنا، والمخاوف من أن تطول فترة سجننا، وتتحمّل عبء القدوم إلى السجن مرّة كل أسبوعين، من أجل رؤيتنا وجلب ما نحتاجه، ربّما تكون حالتي جيّدة مقارنة بحالات معتقلي الحراك الذي يزاولون عملًا حرموا منه، أو طلبة فاتتهم دروسهم، أو أشخاصًا يُعيلون عائلاتهم، أو هم المعيلون الوحيدون لعائلات فقيرة، كانوا قبل اعتقالهم يجلبون لقمة العيش لأفواه صغارهم، ذلك أصعب ما كنّا نعيشه".
المحامون.. ملائكة السجن
"تكون مستلقيًا داخل زنزانة، شارد الذهن، تفكّر في أشياء كثيرة، فتصلك جرائد يومية، تفتحها فتجد صورتك في الصفحة الأولى، تمتزج في محيّاك مشاعر الضحك والبكاء، وكأنّك تريد أن تسأل نفسك، ماذا أفعل في السجن، بل ماذا تفعل صورتي في صفحات الجرائد"، هكذا يصف حمزة قارون يوميات معتقلي الحراك داخل السجن، أيّام متكرّرة في انتظار الفرج.
"لقد كان المحامون، وأفراد عائلتي يقومون بإخباري بكلّ شيء، كنت أسعد كثيرًا بسماع أخبار التضامن معنا التي تصل من مسيرات في مختلف الولايات، حتى السجناء الذين كانوا هناك، كانوا يعلمون كلّ صغيرة وكبيرة حول ما يحدث في الخارج".
يتحدّث المعتقلون عن تفصيل آخر في قضيتهم "كنّا خائفين من أن تصدر في حقّنا أحكام قضائية ثقيلة، فتهمة المساس بالوحدة الوطنية ليست تهمة خفيفة البتّة، لكن المحامين الذين تطوّعوا للتكفّل بملفاتنا كانوا يرفعون معنوياتنا كلّ مرّة نلتقي بهم، لقد كانوا ينقلون إلينا نورًا في قاعات السجن، كانوا أملنا الوحيد، تطوّعوا مجّانًا ولم يقبضوا جرّاء أتعابهم دينارًا واحدًا، بعضهم كان يساعد العائلات ماديًا في اقتناء بعض الحاجيات".
كان الحديث الغالب داخل الزنزانات التي يوجد بها معتقلو الحراك، أنّ هذا الكابوس سينتهي بمجرّد مرور الاستحقاق الرئاسي، كان الكلّ يُجمع داخل السجن أن النظام يملك خارطة طريق واضحة، تمرير الانتخابات وتحرير معتقلي الحراك بعدها، يقول حمزة "بعد أن صدر الحكم في حقّ أصدقائنا أمام محكمة سيدي أمحمد، وهو عام حبسًا منها ستة أشهر نافذة، جهّزت نفسي لسماع الحكم نفسه، لم أكن أريد أن أضع في رأسي فكرة الخروج فيخيب أملي، لكن بعد صدور الحكم، تنفّست الصعداء، وتذكّرت كلام أحد الذين كنت معهم في الزنزانة نفسه، أنت حرّ حتى داخل هذه الزنزانة".
حمزة قارون: قد كانت دموع المساجين أكثر وقعًا على نفسي من فرحة خروجي من السجن
بعد صدور الحكم، عاد حمزة وأصدقاؤه إلى السجن ليجلبوا أغراضهم، في تلك الأثناء حمل حمزة معه صورة لن ينساها أبدًا على حدّ قوله، وهي بكاء بعض المساجين بعد أن أخبرهم بصدور حكم البراءة في حقّه، يُنهي حمزة كلامه "لقد كانت دموعهم أكثر وقعًا على نفسي من فرحة خروجي من السجن".