02-مايو-2019

غلاف كتاب "العنف الاجتماعي في الجزائر"

إنّ التفكير في الأمن هو تفكير في أساسيات الوجود، ويزداد التفكير فيه عندما يصبح الإنسان مهددًا. وبتأمل للواقع، يتضح أنّ العنف تحوّل إلى لغة للتعبير، سواءً عنفًا خطابيًا أو جسديًا.

بتأمل الواقع، يتضح أن العنف قد تحوّل إلى لغة للتعبير على نطاق واسع، سواءً كان عنفًا خطابيًا أو جسديًا

فهل يمكن تبلور تصور سوسيولوجي حول مفهوم العنف في سياقه الجزائري؟ هذا السؤال الذي ارتكز عليه كتاب "La violence en Algérie: Comprendre son émergence et sa progression" للباحث الجزائري محمود بودارن. 

اقرأ/ي أيضًا: وقود الهوية.. في انتظار من سيشعل عود الثقاب

قدم الكتاب قراءة في ظاهرة العنف، وأسبابها وتطورها في المجتمع الجزائري، متتبعًا مختلف المراحل التاريخية، منذ الفترة الاستعمارية إلى غاية اليوم، مرورًا بالعشرية السوداء.

يقول الكاتب في مقدمة الكتاب إنه "ينبغي الفصل بين النصوص والواقع؛ فالدساتير والمواثيق القانونية تتفق جميعها على نبذ العنف بكل أشكاله، بل تؤكّد أنّ الدولة هي الجهاز الكفيل بحماية المواطنين من الظاهرة".

هل تعكس النصوص القانونية حقيقة الواقع؟

لا يوجد نظام سياسي في العالم لا يلتجئ إلى العنف كوسيلة للاستمرار في الحكم، بل إنّ الدولة الحديثة هي الحاضنة الأولى لفكرة "الإرهاب". ولا يشكل النظام الجزائري استثناءً، بحسب الباحث، الذي يشير إلى أن هذا النظام "حكم ومازال يحكم بقبضة من حديد، لأنّ زرع الرعب في نفوس المواطنين هو أحد الوسائل الناجعة للحكم".

ويُرجع الكاتب العنف إلى أسبابه الاجتماعية، مثل الفقر والبطالة، وتفشي الفساد داخل المؤسسات، مضيفًا إليها المناخ الخانق بسبب الحجر على الحريات الفردية والجماعية. واجتماع هذه العوامل ساهمت في خلق وضع قابل للانفجار في أي وقت.

ولا ينسى الكاتب الإشارة إلى أنّ تجربة العشرية السوداء تركت آثارًا عميقة في نفسية الجزائريين، مازالت جراحها مفتوحة إلى اليوم، وهي "من مصادر العنف الخفيّة"، بتعبيره، طالما أنّ المحنة لم يتم التكفل بآثارها، باستثناء المعالجة السياسية لها، والتي همّشت الضحايا ومنحت الغفران والمال لمجرمي الأمس.

وهكذا دخل المجتمع الجزائري طورًا من اللاتسامح، وغياب الحوار في الفضاء العمومي، ما جعل العنف اللغة الوحيدة التي تسوى بها الصراعات، فأصبح العنف، كما يقول بودارن "تعبيرًا عن فقدان الفرد للأمل، وبذلك فإنّ لجوءه إلى العنف مشروع بالنسبة له، وتكمن خطورته في تحوّله إلى عنف جماعي. فحين يغدو العنف جماعيًا، يكتسب صورة انفجار عاطفي معدي، بل ويجعله مهددًا وخطيرًا".

محمود بودارن
الكاتب والباحث محمود بودارن

مرّ الجزائريون بتجارب تاريخية عنيفة، من الاستعمار إلى لحظات التحولات الاجتماعية والسياسية التي اتسمت بالعنف مثل أحداث نيسان/بريل 1980 وتشرين الأول/أكتوبر 1988، ثم مرحلة الإرهاب الدموي؛ حيث لا يمكن لمثل هذه الأحداث الكبرى أن تمر دون أن تخلف آثارًا على البنية النفسية والاجتماعية عند الجزائري، بل قد تكون آثارها مدمرة، خاصة في علاقة الفرد بنفسه وبالجماعة التي ينتمي إليها. وقد لاحظ الباحث أنّ منسوب العنف ودرجته ارتفع في السنوات الأخيرة على نحو وصفه بـ"المخيف"، حتى أنّ المدرسة لم تسلم من الظاهرة على نحو غير مسبوق.

واستند الكاتب إلى واقعة ملعب تيزي وزو، وهي الاعتداء على اللاعب إيبوسي، متسائلًا: "كيف تتحول كرة القدم، وهي رياضة للفرجة، إلى وسيلة للعنف التي أفضت إلى مقتل لاعب كرة قدم؟"، ثم يجيب بجملة واضحة: "هذا معناه بأنّ العنف في بلدنا، تحوّل إلى أمر هيّن، وتافه".

بعد واقعة مقتل اللاعب إيبوسي، حدث اجتماع وزاري طارئ لدراسة الوضع. المشكلة بالنسبة للباحث أنّ رؤية الدولة للحادثة "قاصرة جدًا"، لاهتمامها بالنتائج، دون التفكير في معرفة الأسباب، ما يعني أن كل ما سيُتخذ من إجراءات، لن يكون لها أي دور أو تأثير. وهذا ما حدث فعلا، لأنّ بعد واقعة ملعب تيزي وزو، لم يتوقف العنف في الملاعب.

العنف الاستعماري

مارس الاستعمار عنفًا شديدًا على الجزائريين إبان احتلاله للبلاد، وازدادت ضراوة ذلك العنف مع انفجار ثورة التحرير. وابتكر الفرنسيون أساليب وأدوات تعذيب غير مسبوقة في التاريخ، حتى أنّها أصبحت مرجعًا بالنسبة للأنظمة الديكتاتورية، خاصة في أمريكا اللاتينية، حيث تُدرّس تلك الأساليب ضمن مناهج دورات التحقيق.

تركت التجربة الاستعمارية آثارًا بالغة على الجزائريين، مازالت جراحها مفتوحة إلى اليوم، ولعلّ دراسات فرانز فانون أكدت علميًا أنّ الاستعمار خلّف أمراضًا نفسية وعقلية رهيبة في الجزائريين أثناء الحرب وما بعدها.

إلى جانب هذا، يقول الباحث إنّ الثورة نفسها عرفت شكلًا من العنف الداخلي، وكان أكبر تجلياته، اغتيال عبان رمضان بعد مؤتمر الصومام التاريخي عام 1956؛ فعملية اغتياله كانت بداية لعنف داخلي ضد قيادات من جبهة التحرير الوطني، التي مهدت، بعد الاستقلال، لميلاد نظام ديكتاتوري، واصل في تصفياته للقيادات التي كان يُنظر لها أنها تشكل خطرًا على النظام.

الهوية والعنف

في الكتاب ركز الباحث على عنف السلطة السياسية ضد الهوية الأمازيغية، واعتبر ممارسات السلطة القمعية ضد اللغة والثقافة الأمازيغتين من بين مولدات العنف الداخلي؛ فبعد الاستقلال مباشرة، يعلن أحمد بن بلة بصوت عالي: "نحن عرب، نحن عرب، نحن عرب".

بعد العشرية السوداء دخل المجتمع الجزائري طورًا من اللاتسامح وغياب الحوار، ما جعل العنف اللغة الوحيدة لتسوية الصراعات

"فرض بن بلة واقعًا جديدًا، وهو أنّ الجزائر دولة عربية، ليمنع على الجزائريين الحق في أن يكونوا جزائريين"، يقول الكاتب، مضيفًا: "خلق النظام الجزائري وضعًا استلابيًا، فتح أبواب العنف الفوضوي والأعمى الذي مازال إلى اليوم يهدد السلم الداخلي".

اقرأ/ي أيضًا: الحراك الجزائري حصاد تراكمي.. لا شيء من العدم! 

الحرب المعلنة على الهوية في نيسان/أبريل

سلط الباحث الضوء على محطة تاريخية مهمة في تاريخ الجزائر الحديث، وهي الربيع الأمازيغي، ففي 20 نيسان/أبريل 1980، أعلنت السلطة السياسية في الجزائر حربها ضد الهوية الأمازيغية. موقف السلطة من الهوية فرض نوعًا من الاستلاب على مكون من مكونات الهوية الجزائرية. إلا أنّ هذا التاريخ أيضًا، كان بداية سقوط جدار الخوف الذي فرضته السلطة بقمعها للحريات، وقد مهد هذا الحراك لمظاهرات تشرين الأول/أكتوبر التي فتحت الجزائر على مرحلة جديدة.

استعملت السلطة السياسية كل وسائلها لتشويه هذا الحراك، ومن ورائه تشويه منطقة القبائل ورموزها، حيث تمّ الترويج لهذا الحراك بأنه خطر يهدد الوحدة الوطنية، وأنّ الأمازيغ مجرد عملاء للقوى الخارجية. وهنا ثمة ملاحظة تتمثل في أنّ النظام السياسي في الجزائر لم يطوّر صيغة اتهاماته، فهو مازال إلى اليوم يتهم المنتقدين والمعارضين بالعمالة والخيانة.

غلاف كتاب "العنف الاجتماعي في الجزائر"

ومع هذا، يقول محمود بودارن، إنّ ما حدث في 20 نيسان/أبريل 1980، كان "ثورة على الاستلاب الذي تعرّضت له شريحة من المجتمع الجزائري"، بل يرى أنّ الأحداث عبّدت الطريق لتشرين الأول/أكتوبر 1988، حيث انفجر الشارع الجزائري برمّته مطالبًا بالتحرر من نظام الحزب الواحد.

إذًا مارس النظام عنفين: عنف رمزي من خلال عمليات التشويه، وعنف مادي من خلال اللجوء إلى القوة ووسائل الردع؛ ففي تشرين الأول/أكتوبر 1988، استعملت قوات الأمن الذخيرة الحية، وأسفرت المواجهات عن سقوط المئات من الضحايا، فضلًا عن عمليات الاعتقال والتعذيب. ثم ما نتج عن ذلك من مشروع جزائر جديدة فيها التعددية والحريات، سرعان ما أجهض بالمواجهات بين الإسلام السياسي والجيش.

الإرهاب والعنف المقدّس

انطلق محمود بودارن من فكرة أنّ الإسلاميين استثمروا الغضب الشعبي من السلطة لاستدراج الشعب إلى مشروعهم "الإسلاموي"، وكان الشعب، الذي فقد الأمل في السياسة وفي النظام، يبحث عن البدائل، وعن تعويض ما فاته من التنمية والتطوّر، فوجد في الدين ملاذًا أخيرًا. لكن هل كان الشعب يُدرك جيدًا ما الذي كان يُحاك له؟ وهل المشروع الذي وعد به الإسلاميين هو الجنة الموعودة على الأرض؟

وصمت مرحلة التسعينيات بعنفها الدموي، جيلًا بأكمله نشأ داخل جوّ من الرّعب الإرهابي، فامتلأت ذاكرته بصور الموت والقتل والجثث المبتورة أو الممزقة، ومازالت أخبار المجازر الجماعية تصدح داخل هذه الذاكرة. بالإضافة إلى أنّ هناك شريحة من الجزائريين وُلدوا من عمليات الاغتصاب التي تعرّضت لها أمهاتهم المختطفات في الجبال. إنّه جيل يحمل ذاكرة مثقلة بالرعب وبالعنف.

هل يمكن لهذا الجيل تجاوز هذا الإرث من الرعب والعنف بمجرد قرار سياسي؟ ضمن أفق هذا السؤال/المأزق، يقول محمود بودارن إنّ فكرة المصالحة، أو تحديدًا مفهوم الغفران، هما "نتيجتان لمسار طويل من المجاهدة النفسية، ومن الممارسة الثقيلة والمؤلمة للحداد". إنّ المصالحة التي جاء بها النظام السياسي البوتفليقي، هي، وفقًا لبودارن، "إرغام الضحية على النسيان"، موضحًا أنه لم يتم التعامل مع ضحايا الإرهاب كحالات عصابية تستدعي العلاج. وإلى اليوم كل معالجات السلطة كانت سياسية فقط.

ما بعد العشرية السوداء.. الدخول في مرحلة البؤس الثقافي

تحت شعار استعادة الأمن والمصالحة مع جراحات الذات، وجد النظام السياسي في الجزائر الشرعية الكاملة لفعل ما يشاء، حتى أنه تم تصوير الرئيس في صورة النبيّ المخلّص، كأنّه هو من كان يخوض المعارك الدموية في الجبال، وهو الذي كان يفكك القنابل في الشوارع الملغمة بالموت.

فاسترجاع الأمن كان بأثر سياسي رجعي، تم توظيفه أيديولوجيًا لمنح صكوك البطولة لرجل كان ينعم في جنات الإمارات وباريس، ليأتي بعدها ويجلس فوق كرسي الحكم المشيد على هضاب من الجثث والقتلى. ثمّ يأتي من يصدّق بكرامات الرجل باعتباره بطلًا مخلّصًا. ونجح هذا النظام في الحكم من خلال زرع وهم البطل المُخلّص، فيكفي إلقاء البذرة لتنمو بسرعة وتغرز جذورها عميقًا في لاوعي الجماهير.

لقد استثمر النظام في الفراغ، ونجح في خلق مستثمرات تعني بتمكين الفراغ من كلّ قطاعات المجتمع؛ فهناك فراغ سياسي بمحاصرة الممارسة السياسية وإفراغ المعارضة السياسية من وظيفتها، وغلق أبواب النقاش السياسي. كما أن هناك فراغ ثقافي، تجسد في شكل بؤس ثقافي.

محمود بودارن
محمود بودارن: جيل العشرية السوداء أنهكه الفقر والبطالة وسقط فيما يشبه فقدان الهدف

حالة الفراغ هي المناخات الملائمة لانتشار العنف بكل أشكاله، لأنّ الفعل الثقافي، يلعب دور المطهّر النفسي لتراكمات الضغط النفسي والاجتماعي عند الأفراد، كما يقول بودارن، مشيرًا إلى أن الشاب الجزائري، كغيره من شباب العالم، "يحلم بالحياة، ويطوق لعيش حياة تليق بسنّه، فهو مثقل بحب الحياة، لكن هذه الرغبات المشروعة سرعان ما تنطفئ أمام رعونة الواقع ولا رحمته".

يؤكد بوردان على أن جيل ما بعد العشرية السوداء، "أنهكه الفقر وأنهكته البطالة، وسقط فيما يشبه فقدان الأهداف الواضحة في الحياة"، حتى أنّ لا أحد أصبح يثق في الحياة في هذا البلد الذي تحول إلى أشبه بمحتشد كبير.

يقول محمود بودارن مرة أخرى، إنّ العنف ينشأ أيضًا بسبب البؤس الثقافي، بحيث أنّ انعدام الفضاءات الثقافية، مثل دور السينما والمسارح، يساهم في الاختناق الداخلي للشاب، وبذلك سيتحوّل إلى قنبلة موقوتة قد تنفجر على المجتمع في أي وقت. فالثقافة تلعب دور المطهّر والمحرر للفرد من احتباسه الداخلي.

البحث عن السعادة المستحيلة

إنّ مجتمعًا غير سعيد، هو مجتمع يعاني من احتقار الذات، وموت الأمل، وكلها عوامل تولّد العنف الفردي، الذي سرعان ما يعدي المجتمع ويتحول إلى عنف جماعي يجتاح الفضاء العمومي؛ ففي السنوات الأخيرة أصبح العنف مرئيًا على نحو لافت، مع ازدياد الجرائم والاعتداءات في وضح النهار على ممتلكات وأرواح الناس، وكثيرا ما تكون الجريمة لسبب تافه.

يتأمل بودارن المدينة الجزائرية، فلا يرى فيها إلا "غيتوهات جماعية تفتقد إلى الهندسة التي تليق بالحياة المدينية: مدن بلا أسماء، وبلا هوية، وبلا هندسة واضحة، مجرد محتشدات سكانية، تعاني من الفوضى، وقد غزتها مظاهر تدل على أنّ السكان يعيشون في جو من الخوف، حتى أنه بلغ الأمر بهم إلى وضع أبواب وأعمدة حديدية لحماية ممتلكاتهم".

إنّ مجتمعًا غير سعيد، هو مجتمع يعاني من احتقار الذات، وموت الأمل، وكلها عوامل تولّد العنف الفردي الذي سرعان ما يتحول لعنف جماعي

يمثل كتاب محمود بودارن، مساهمة جرئية في قراة ظاهرة العنف في الجزائر، ودعوة لتأمل العنف لا بوصفه جوهرًا في الإنسان الجزائري، وإنما نتيجة لتراكم عوامل تاريخية سياسية واجتماعية وثقافية ونفسية، ما زالت إلى اليوم بعيدةً عن أعين الباحثين.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "الحي السفلي".. سجل سياسي لانتحار بطل كافكاوي

غباء الدولة وتفاهة السياسة