ألترا جزائر -فريق التحرير
رغم تولّيه منصب رئاسة أركان الجيش الجزائريّ المصنّف، ضمن جيوش النّخبة أفريقيًّا وعربيًّا، منذ عام 2004 خلفًا للفريق محمّد العمّاري، بالموازاة مع منصب نائب وزير الدّفاع الوطنيّ، منذ عام 2013 خلفًا للجنرال عبد المالك قنايزيّة، بما يجعله من الوجوه التّي واكبت مرحلة الرّئيس عبد العزيز بوتفليقة الممتدّة ما بين سنتي 1999 و2019، إلّا أنّ أحمد قايد صالح ظلّ بعيدًا عن أنظار الجزائريّين وأسماعهم، بما جعله ضمن أصحاب "الظلّ المؤثّر".
تحوّل أحمد قايد صالح، في غضون أيّام، إلى نصير للشّعب وبطله القوميّ
انطلق الحراك الشّعبيّ والسلميّ يوم 22 شبّاط/ فبراير الفائت، فبدأ كبير الجيش الجزائريّ يغادر الظلّ إلى الضّوء المطلق، بوصفه للمتظاهرين في البدايات بـ"المغرّر بهم". وهو وصف تعوّدت الحكومات المتعاقبة على أن تطلقه على كلّ حركة شعبيّة ترفع شعارات ضدّها، خاصّة في الفترات، التّي تولّى فيها أحمد أويحي إدارة الحكومة.
اقرأ/ي أيضًا: تعيين موعد الانتخابات الرئاسية في الجزائر.. تباين وقلق
فجأةً انقلب أحمد القايد صالح (1940) على موقفه المعادي لمسعى الحراك الشّعبي، واصفًا محيط الرّئيس بوتفليقة بـ"العصابة"، تمامًا كما وصفها الشّارع، ودعا إلى تطبيق المادّة 102 من الدّستور، التّي تقرّ حالة شغور منصب الرّئيس، في حالات معيّنة منها مرضه. ثمّ تجاوز ذلك إلى المطالبة بتطبيق المادّتين 07 و08، اللتين تمنحان السّلطة المطلقة للشّعب.
تحوّل أحمد قايد صالح، في غضون أيّام، إلى نصير للشّعب وبطله القوميّ، حتّى أنّ الشّباب باتوا يلقبونه بـ"العمّ"، كاسرًا بذلك الصّورة النّمطية للرّجل العسكريّ الجزائريّ المرتبط في الأذهان والوجدان بالقسوة والهيبة والبعد عن الحياة المدنيّة وحالاتها الإنسانيّة المختلفة.
رحل عبد العزيز بوتفليقة مطلع شهر نيسان/ أفريل، بعد أن رفض الحراك الشّعبي كلّ اقتراحاته للبقاء مؤقتًا في السّلطة، مخلّفًا حكومة كلّف برئاستها وزير داخليته نور الدّين بدوي، الذّي أدرجه الحراك ضمن الباءات الأربعة المرفوضة حينها، بوتفليقة الرّئيس وبوشارب رئيس البرلمان وبن صالح رئيس مجلس الأمّة، فتوقّع الرأي العامّ استقالة القايد صالح منها، بصفته نائبًا لوزير الدّفاع الوطنيّ، انسجامًا منه مع تماشيه مع الحراك، لكنّه لم يفعل.
انتقلت رئاسة الدّولة من عبد العزيز بوتفليقة (1937) إلى عبد القادر بن صالح (1941)، تطبيقًا للدّستور الذّي يقضي بذلك. ولم يكتفِ رئيس أركان الجيش بالبقاء في حكومة بدوي، بل راح يصف أعضاءها بـ"إطارات الدّولة المحترمين"، في مقابل إطلاق صفات غير منتظرة منه على بعض وجوه الحراك وقواه من جهة، مثل "العميلة" و"المناوئة للوطن"، والسّكوت من جهة ثانية على تهجمات بعض الوجوه المدنية الموالية له عليها، خاصّة منطقة القبائل، التّي كانت في طليعة المناطق، التّي حظيت بحصّة الأسد من تلك التهجّمات.
الحراك يتراجع؟
حاول الرّجل إفراغ الحراك الشّعبيّ من الدّاخل، من خلال إقدامه على سجن وجوه بارزة في الفساد الماليّ والسّياسيّ والإداريّ، لم يكن الجزائريون يتوقعون سجنها، مثل رئيس الحكومة السّابق أحمد أويحيّ ومدير المخابرات الأسبق محمّد مدين المعروب بـ"ربّ الجزائر" وشقيق الرّئيس بوتفليقة المعروف بكونه كان الرّئيسَ الفعليَّ للبلاد ورجل المال والأعمال علي حدّاد. بالموازاة مع دغدغة الضّميرين الوطنيّ والدّينيّ للجزائريّين، في خطبه، التّي باتت تقليدًا أسبوعيًّا، فظهرت ما تسمّى النزعة "الباديسيّة" نسبةً لرائد الإصلاح الدّيني عبد الحميد بن باديس (1889 ـ 1940) والنوفمبريّة، نسبةً لبيان أوّل نوفمبر، الذّي حدّد ملامح ثورة التّحرير (1954 ـ 1962).
نجحت الخطّة بشكل ما، إذ لوحظ تناقص أعداد المتظاهرين خلال الجمعات العشر الأخيرة. فاستغلّ الرّجل هذا المعطى، وصعّد من لهجته ضدّ قوى الحراك الشّعبيّ، لينتهي إلى وصفهم، خلال الخطاب الذّي ألقاه في قسنطينة، منتصف الأسبوع الفارط، بـ"الشّرذمة". في مسعى دفاعه عن خيار الانتخابات الرّئاسيّة، التّي تولّى شخصيًّا اقتراح يوم 15 سبتمبر الجاري موعدًا لدعوة الهيئة النّاخبة إليها.
تعاليق ساخرة
انتشرت الكلمة التّي استغربها الجزائريّون من زاوية ندرة استعمالها، ومن زاوية كونها لا تليق بمواطنين يعبّرون عن آرائهم بطريقة سلميّة، فتعاملوا معها بروح ساخرة ظهرت في مجالسهم الواقعيّة والافتراضيّة، حتّى أنّ الواحد منهم بات يصف بها غيره إمّا مازحًا أو جادًّا. بما فيهم الأطفال في الشّوارع والمدارس.
فيقال مثلًا: أنت شرذوم أو متشرذم أو تستعمل بنبرة مفرنسة "شرذوميست"، على وزن "كومينست" أي شيوعي أو "فيمينست" أي ذات نزعة أنثويّة. وأعطى البعض معنى معاكسًا للكلمة، فصارت تعني الجماعة الكثيرة، خاصّة بعد الجمعة الـ31، التّي استرجع الحراك الشّعبيّ من خلالها أنفاسه، حيث شهدت الجزائر العاصمة طوفانًا شعبيًّا، رغم الحصار الذي دعا إليه رئيس الأركان، بأن منع دخول السيارات والحافلات القادمة من ولايات أخرى.
يقول أستاذ الفلسفة في جامعة باتنة وعضو "الجمعيّة الجزائريّة للدّراسات الفلسفيّة" بشير ربّوح لـ"الترا جزائر" إنّ الحراك الشّعبيّ طوّر أسلحة معنويّة بات يواجه بها القوى المضادّة لمطالبه وفلسفته، سواء داخل السّلطة أو خارجها، "فيميّع خطاباتها وأحكامها ومواقفها والأوصاف، التي تطلقها عليه بالسّخرية المبدعة، حتّى ينقل العقدة إلى معسكرها، ممّا تسبّب في أكثر من مرّة في إجهاض مشاريعها ومقترحاتها".
وشبّه ربّوح كلمة "شرذمة"، التّي أطلقها كبير الجيش في خطاب قسنطينة بالقنبلة المسيلة للدّموع، "حيث يلتقطها المتظاهرون ويعيدون إرسالها إلى مطلقيها، مغيّرين بذلك مجرى الدّموع". يضيف: "أنا متأكد من أنّ القايد صالح لو كان يتوقّع الاستعمالات السّاخرة للكلمة لما استعملها أصلًا. وهنا علينا الانتباه إلى قصور مستشاريه وكتّاب خطاباته، على المستويين الألسني والنّفسيّ للّغة، التّي هي سلاح أيضًا".
حرب نفسية
في سياق شبيه، يقول المصوّر والجامعي خليل بن قرّي أنّ ثمّة زاوية علينا تثمينها هي أنّ الجزائريّ بات يتلقى ما لا يعجبه في خطابات أعلى مسؤول عسكري، فيعلّق عليه ويسخر منه، من غير أيّ خوف أو تردّد، "وأرى أنّ هذا امتداد للحراك في الشّارع. بل إنّه أكثر ما يزعج السّلطة عسكرية ومدنيّة، لكونه مؤشّرًا على أنّها لم تعد تتحكّم في العواطف والعقول بالشكل الذي يضمن هيمنتها المطلقة".
يضيف محدّث "ألترا جزائر": "كان القايد صالح منسجمًا مع منطق الرّجل العسكريّ بوصف قوى الحراك بالشّرذمة، وكان الشّارع منسجمًا مع المنطق المدنيّ بالسّخرية منه".
يعمل حراكيّون على إظهار مساندي خيار "الانتخابات في أقرب الآجال" في صورة الانتهازيّين
يبدو أن الحرب النّفسيّة باتت مشتركة بين الطّرفين. ففي الوقت الذّي تحاول منابر السّلطة القائمة أن تظهر قوى الحراك في شكل "بقايا" أو ما وصفه رئيس أركان الجيش بـ"الشّرذمة"، يعمل حراكيّون على إظهار مساندي خيار "الانتخابات في أقرب الآجال" في صورة الانتهازيّين و"عشّاق الحذاء العسكري". فلمن تكون الغلبة في النّهاية؟
اقرأ/ي أيضًا:
السلطة المستقلّة للانتخابات.. المراهنة على المهمّشين في زمن بوتفليقة