15-يوليو-2021

نيم (فيسبوك/الترا جزائر)

اقترَحَ لي موقع فيسبوك البارحة صفحةً جديدةً كانت تحملُ عنوانًا غريبًا: " دعاءٌ كُلَّ يومٍ للخروجِ من البَلَد"! وقد هالني حقيقةً ذلك الكمُّ الهائلُ من الجزائريّين الّذين تابعوا هذه الصَّفحة فقط لترديد نفس الدُّعاءِ يوميًّا حتى يتحقق. فلم كل هذه الرغبة في المغادرة؟!

ضاقت بنا السُّبُل على شَسَاعة هذا البلد وصار من الطَّبيعيّ جدا أن يُهَنئ الجميع شخصًا ويفرحوا لقدرته على العبور نحو الضفة الأخرى

 كَمٌّ ثقيلٌ من اليأسِ في بلدٍ غَدَتْ فيه حرية التعبير مُختنقة وخَانقةً لأصحابها، ضاقت بنا السُّبُل على شَسَاعة هذا البلد، وصار من الطَّبيعيّ جدا أن يُهَنئ الجميع شخصًا ويفرحوا لقدرته على العبور نحو الضفة الأخرى لينفذ بجلده، ويستطيع التنفس والحديث عن آرائه دونما خوف، أو لممارسة عمله بلا رقابة أو توجيه أو إجبار في ظروف قاهرة لأفكاره وتوجهاته، ظروف تنتف ريشه شيئًا فشيئًا فيغدو عاجزًا عن الإبداع والتحليق.

اقرأ/ي أيضًا: مصور خنشلة.. عدسة جلال مرزوق بين النار والرماد

لقد شاهدنا بقلوبٍ مُتحسِّرة اليوم، خروج الفنان الكاريكاتوري المدعو "نيم" عن صمته الذي دام طويلًا، لم يتحدث، لكنه قام بما يتقنه، الحديث عبر الرسم، حيث وضع بحُرقَةٍ رسومًا عبرت عن تلك الشخصية التي خلقها في أعماله على حسابه في فيسبوك، فقص علينا بطريقته قرار مغادرته البلاد نحو باريس، كانت عيناه تحملان الكثير من الألم الذي يسكننا جميعًا، حتى أننا رأينا حرقة فراق والدته فيهما، وهذا ما جعل الكثيرين يشاركون منشوره ويدعمون قراره ويهللون له، بل إن بعضهم كانوا يدعون الله للَّحاق برَكبِ الهجرة قريبًا.

قبل ذلك، كنا قد سمعنا البارحة عن ذلك الفنان الذي تم استجوابه بعد عرض مسرحي من طرف الشّرطة في الكواليس، فبعدما فرح بتقديم عمله الجديد، انزوى به رجال الأمن في الكواليس ليحاسب على المغزى من جمل وتعابير استعملها في دوره على الخشبة، والدخول في "شبهة انتقاداتٍ سياسية"!!

 أضحينا إذن نفرح لمغادرة هذه الأرض، ونهلِّلُ في قهرٍ لِقَطعِ جذورنا منها، نهرع لترك أمهاتنا وذوينا لنعيش بكرامةٍ بعيدًا عن هذا الوطن الذي كافحنا لأجل أن يمشي دون عكازات، وألا يبقى حبيس النظام الجائر والتجاذبات السياسية وقهر الساسة بعد أكثر من سنتين من حراك أبهر العالم!

في الحقيقة، يمكن اعتبار الفنان "نيم" (محظوظًا) مقارنة بالعديد ممن ضاقت بهم سبل الإبداع، لأنه استطاع مغادرة البلاد بأقل الأضرار النفسية "ربما"، رغم أنه عانى من الحبس لمدة طويلة داخل السجن بسبب رسوم كاريكاتير اعتُبِرَتْ مهينةً للرئيس الحالي ولبعض الشخصيات السياسية، وبعد خروجه، كان من الصعب عليه بما كان أن ينتهج نفس الخط الحرّ الذي ألفته أنامله، ففضّلَ اللُّجوءَ إلى أسلوبِ المجلات المصورة الساخر بشكل أكثر حداثة واحتراف، وتناول مواضيع اجتماعية آنية أثْرَتْ منشوراته على مواقع التواصل وزادت من نسبة محبيه ومتابعيه، مع ذلك، بدا أنه لم يجد نفسه ليبدع في بلده بلا قيود.

واقعيا، لا يحالف الحظ الكثيرين في اغتنام فرص للمغادرة، نحن نرى الكثير من الفنانين الذين يعانون من الاختناق والتهميش والتضييق، وكل ذنبهم كان أن خياراتهم الفكرية والسياسية لم تتماشى مع الركب الرسمي.

لقد شهدنا مثلا وما زلنا نشهد منذ فترة، استغلال قاعات المسرح الجهوي في إحدى مدن الشرق-حسب شهادات فنانين ساخطين- من طرف بعض الدخلاء في إدارته لدعم الشخصيات والجهات الرسمية، وتسخير قاعته للحملات الانتخابية، فيما أغلق في وجه أبناء المسرح، فشحت فيه العروض الهاوية التي تجوب باقي مدن البلاد، ورُفِضت مقترحات أبنائه الذين صاروا بطالين وغرباء عن قاعات العرض التي لم تعد مساحات حرة، بقدر ما صارت مَكَبًّا لمختلف مظاهر التّطبيل الجرداء من الفن، ومخصصة للكراء التجاري واقتسام المداخل.

كل هؤلاء  الفنانين يملكون أيضا أجنحة، وكانوا يودون التحليق داخل الوطن وخارجه بدورهم، لكنهم لا يغنمون أية فرصة للنجاة.

لقد صارت ممارسة الفن ومحاولة التفكير والمشاركة في تغيير المشهد الثقافي والسياسي ومواكبة الأحداث جريمة يعاقب عليها القانون في الجزائر، ومثلما يُسجَنُ الصّحافي، والناشط السياسي، والمواطن البسيط الذي يعبر عن آرائه في الشارع وفي مواقع التواصل، يُسجَن الفنان أيضا لمجرد أنه روح حرة تمارس شغفها وتستغله لدعم القضايا العادلة في بلد موبوء لا يوفر أفقًا رحبًا.

أضحت الهجرة السرية والعلنية على حد سواءً حلًا وحيدًا للمثقف وللمواطن الحر عمومًا للحصول على فضاءات أرحب لفنه ولآرائه

بالنهاية، أضحت الهجرة السرية والعلنية على حد سواءً حلًا وحيدًا للمثقف وللمواطن الحر عمومًا للحصول على فضاءات أرحب لفنه ولآرائه، وترجع بنا الذاكرة في هذه الحالة إلى ما كان يحدث أيام العشرية السوداء، حيث نفد الكثير من الفنانين والمثقفين بجلودهم هربًا من شبح القتل والتهديد، وبحثوا عن أرض خصبة لنشاطاتهم الفنية، ليعود المشهد اليوم من جديد في زمنٍ لا يموت فيه الفنان مغتالًا، ولكنه يموت من فرط التضييق والانعزال والوحدة، وإن لم يفن جسده، ستغتال روحه لا محالة، ويصبح شبحًا ينتظر دفنه في أحد القبور المنسية، ليلقى بعدها أهله تكريمًا من طرف سلطات خنقته، بطاقم شاي رخيص يوضع في خزانة تتوسط غرفته الباردة التي سلب منها دفء الفنان وحريته وهو على قيد الحياة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المثقّف هو ضحيّة واقعه أيضًا

خاطرتان عن الحراك و"الكان"