10-يوليو-2018

سفن قديمة في ميناء أمريكي

رأيت البنت بشعرها الأجعد ورائحة العرق، والبنت رأتني. إيقاع نظراتي كان سريعًا خجولًا. لا أعرف الميناء ولا لغة الكلام هنا. غمز زميلي وقال:

 ـ "تعال"

قلت:

 ـ"لا"

كانت تبتعد.. تسير مع البنات، وبأذرعهن تعلق سلال الخوص وتتأرجح. ملأنها بالسجائر المستوردة والمناديل وأكياس اللب والسوداني، يتسللن بين الوجوه المسرعة والحقائب والصناديق الثقيلة التي تغلق امتداد الرصيف.

جذبني زميلي من ذراعي:

 ـ"تعال نذهب إليها".

 ـ "نذهب لمن؟!

 ـ "البنت السمراء".

هززت رأسي رافضًا. ثم رأيته يمضي ويتكلم معها. كنت مشدودًا ـ لا أعرف لماذا ـ إلى رائحة عرقها المتبلة ودقة ملامحها البرونزية. كان لها فم يشبه فم السمكة. ورأيتها تتلفت ناحيتي ثم اختفيا معًا داخل أحد الممرات الجانبية. كأن زميلاتها لا يبالين بشيء يحدث في الممر، يلوحن بأيديهن.. يتبادلن القبلات مع البحارة.. مع زملائي جنود حفظ السلام ذوي القبعات الزرقاء.. مجرد قبلات بريئة تتطاير في الهواء.

لماذا لا أذهب وأتلصص عليهما في الممر؟ لماذا لا أتبع رائحة العرق الحارة الدافئة؟! لابد أنها انزوت ـمنساقة ـ في آخر الممر.. لن تقاوم قبلة طويلة لها ملمس الحرير الدافئ.. وربما يفعل الآن بهدوء وهما واقفان في العتمة.

لماذا لم اذهب أنا من البداية؟!

كانت الباخرة التي تقلنا راسية تجأر بلا نهاية.. تدوي دويًا مبتورًا غليظًا متحشرجًا والماء الراكد يهتز حولها في موجات خفيفة.. زملائي أسرعوا في اتجاه واحد وعيونهم لا تنظر إلى شيء. على ماذا يستعجلون ونحن في النهاية نساق للقتل على الحدود بين بلاد وبلاد؟! شاهدت إحدى الفتيات تدس إصبعين في فمها وتصفر لزملائي وهم يصعدون سلالم الباخرة.

تواريت بعيدًا. لا أرغب في العودة إلى الباخرة ولا أقدر أن أذهب إلى الممر. الليل كان يهبط بهدوء وظلت صفحة السماء رمادية بلا نجوم. رائحة رطبة عتيقة تنتشر في سكون الميناء الصغير. لمبات الصوديوم على امتداد الرصيف تخترق ضباب الليل بأشعة واهنة. أخيرًا.. زميلي يخرج وهو يضبط القبعة الزرقاء على رأسه بعناية. كانت البنت تجري وراءه وتصيح:

ــ "آجون نيجر نيررك؟*"

أمال قبعته كما كانت ويده في جيبه، ربما يصفر الآن يدندن لا يبالي بشيء، وهو عائد إلى السفينة التي أعطت إنذارًا أخيرًا قبل الإقلاع.

البنت تسمرت في مكانها والسؤال ينساب بين شفتيها الممتلئتين:

ـ "آجون نيجر نيررك؟"

كانت شفتاها بلون التوت. استدارت بعيدًا تقطع الرصيف إلى نهايته.

الأخريات يتسكعن ورائها بخباثة، ثم انفجرن ضاحكات.

كانت السفينة تغادر من دوني. وفجأة رأيت البنت تجري. مرت بي دون أن تراني، ورغم ذلك أنزلت قبعتي الزرقاء على عيني أكثر لا أريد أن أتواطأ معها. كانت ـ وهي تجري ـ أشبه بكانجارو تائه.

عيون البنات تتابعها:

 ـ "لوكـا!"

 ـ "لوكـا!"

 

البنت اسمها لوكـا. لها فم سمكة وشفتان بلون التوت ورائحة متبلة واسمها لوكـا.

البنات ما زلن ينادين ولكنها اختفت.

لوكـا اختفت، والأخريات جلسن صامتات على حافة الرصيف، يراقبن رقرقة الماء والأضواء والظلال المنعكسة، وحين كانت تتراءى أنوار إحدى السفن في البعيد كنّ يقفن ويلوحن بقبلات وهمية وتنهدات حارة لرجال غير موجودين.

 

  • لهجة تشادية معناها: "متي سأراك ثانية؟"

 

اقرأ/ي أيضًا:

كحذاء لا يشتريه أحد

السماء ليست مجبرة على الطيران