لُعبة "ثُومْلِيحت".. سرّ الخاتم المفقود في ليالي رمضان بالأوراس
22 مارس 2025
أين اختفى الخاتِم؟ رحلة البحث عنه ليست مجرّد لعبة شعبية، فهي تجمع بين متعة اللعب ودفء اللقاءات الاجتماعية، في ليالي رمضان في عدة بلديات بمنطقة الأوراس شرق الجزائر.
تنبُض المقاهي بعبق التراث الأوراسي، حيث تتجسد لعبة "ثُومْليحت" كطقس رمضاني متجذّر، حاملةً حكايات الأجداد وشغف الأجيال، في رحلة بحث عن الخاتم المخبّأ.
عزيز بن يزة: اللعبة جزء أساسي من الهوية الثقافية لمنطقة الأوراس حيث كانت تُلعب في الأعراس والتجمّعات العائلية وأصبحت اليوم طقسًا رمضانيًا
في مقهى عمّار سلطاني وسط بلدية وادي الماء، غرب ولاية باتنة شرقي الجزائر، تتقاطر بعد انقضاء صلاة التراويح، وفود كثيرة يصحبها في العادة عازفا آلة الناي، المسماة محليًا "القصبة"، كما لو أنهم ذاهبون إلى عرس.
رغم تغيّر الزمن وتطوّر وسائل الترفيه، تبقى "لُعبة الخاتم" صامدة في وجه الحداثة، تُعيد في كل ليلة رمضانية إحياء أجواء الماضي الدافئة، حيث يجتمع الأصدقاء وحتى الأقارب حول لعبة تحمل في طياتها الدهاء، والإثارة، والتآخي، على إيقاع أنغام القصبة التي تهمس للمكان بأنين الحنين للزمن الجميل.

المقهى الملعب
الوفود القادمة من البلدات المجاورة، مثل تينيباوين، نقاوس، الحاسي تامهريت، زانة البيضاء، عين جاسر، ومروانة، تتخذ لها مكانًا وسط المقهى لتشكيل فرق من أربعة أفراد، يجلسون على أفرشة أو حصائر.
قد يخضع الأمر لحسابات دقيقة من زعماء الفرق في اختيار العناصر الذين سيخوضون بهم غمار المنافسة، كما لو أنهم وكلاء أعمال في الميركاتو يبحثون عن أفضل اللاعبين، قبل أن تتشكّل الحلقات أو الصفوف المتقابلة، ليرتفع الستار عن بداية اللعبة.
تُسمّى هذه اللعبة بالأمازيغية الشاوية "ثومليحت"، وتعني الخاتم في مناطق الأوراس الغربي ناحية جبال وسهل بلزمة، بينما تحمل مسمى "بات بات تقبيشت" في نواحي إينوغيسن الواقعة ضمن نطاق الأوراس الشرقي.
حميدة شوشان: لعبة ثُومْليحت مصنّفة ضمن الألعاب الشعبية التي تُمارس أيضًا في مناطق شمال أفريقيا خلال لقاءات العائلات أو بين الجيران
توحي كلمة "بات بات" بمعنى لقد بات يبحث عن الخاتم، بينما لا يُعرف أصل كلمة "تقبيشت"، التي توارثها الناس سماعًا منذ عقود، بل ربما منذ مئات السنين نظرا لتشابهها مع لعب قديمة منتشرة في الثقافات الشعبية، مثل "ابحث عن الكشتبان" المعروفة لدى الأنجلوساكسون في أنجلترا وأميركا، ولعبة " الغوتيو" الاسبانية، ولعبة "الأيدي الساخنة" في أفريقيا وأمريكا اللاتينية.
تقول الباحثة حميدة شوشان، صاحبة كتاب "الألعاب الشعبية في الأوراس"، لـ "الترا جزائر":"لعبة ثومليحت أو الخاتم، واحدة من بين ثلاثين لعبة شعبية أحصيتها في كتابي، الذي حاز جائزة رئيس الجمهورية للأدب والثقافة الأمازيغية في فرع التراث اللامادي عام 2024.
وهي مصنّفة ضمن نطاق الألعاب المجتمعية، التي تُمارس أيضًا في مناطق شمال أفريقيا خلال لقاءات العائلات، سواءً بين الرجال والنساء، أو بين الجيران، في السهرات الشتوية الباردة.
كما تُلعب في المنازل خلال مواسم الأفراح، وتتحوّل إلى طقس يومي خلال سهرات رمضان، حيث تدبّ الحركة والنشاط حتى وقت السحور، فتتكيّف رزنامة الحياة اليومية مع إيقاع الصيام".

أين اختفى الخاتم؟
يُداوم عزيز بن يزة (40 سنة)، على ممارسة هذه اللعبة منذ سنوات طويلة، كلما سنحت له الفرصة، فيقول لـ "الترا جزائر":"
أحببت هذه اللعبة منذ نعومة أظافري، حين كنت أُشاهد كبار السن يجتمعون في محل عمي موسى أوعزوز في بلدة تاكسلانت لممارستها. إنها ليست مجرد لعبة، بل وسيلة للالتئام ولمّ الشمل والتعارف. المقهى أو المحل يتحوّل إلى فضاء للمرح، حيث يلتقي المشاركون من عدة مناطق، مثل شيدي، بومقر، وقوشبي، ومروانة، مما يزيد أجواء المنافسة حرارةً، هو حضور عازفي القصبة، الذين يضفون على اللعبة طابعًا من التحدي والإثارة والمرح".
يضيف عزيز، رئيس جمعية ثازيري للثقافة والتراث بمروانة في ليالي رمضان ، موضحًا طريقة اللعب: ينقسم اللاعبون إلى فريقين متقابلين، يضمّ كل فريق أربعة أفراد.
تُمنح الخاتم للمجموعة التي ترسو عليها القرعة باستخدام قطعة نقدية، تمامًا كما يُحدد منفّذ الركلات الترجيحية في كرة القدم. الفريق الذي يبدأ يُخفي أيدي أفراده تحت بطانية أو إزار، بينما يقوم أحدهم، ويُسمّى البيّات، بوضع الخاتم في راحة أحد زملائه، الذي يشدّ عليها بقبضته، ثم يصيح "دُكْ"، فيُرفع الستار. بعدها، يستعرض اللاعبون قبضاتهم أمام الفريق المنافس، الذي عليه أن يحدّد أيّ قبضة تُخفي الخاتم".
تعتمد اللعبة على الحظّ والفراسة، فإذا نجح الفريق المنافس في كشف موضع الخاتم، يحصل على نقطة ويستحوذ على الخاتم، ليُعيد العملية نفسها
تعتمد اللعبة على الحظّ والفراسة، فإذا نجح الفريق المنافس في كشف موضع الخاتم، يحصل على نقطة ويستحوذ على الخاتم، ليُعيد العملية نفسها. أما إذا فشل، فيبقى الخاتم مع الفريق الأول، ليتواصل التنافس إلى النفس الأخير للجولة التي يحسمها عدد النقاط المجموعة.
في خضمّ التحدي، هناك مصطلحات تُطلق خلال اللعب، حيث يتولى الرشّام تدوين النقاط، وعند وصول أحد الفرق إلى 25 نقطة، يصيح بكلمة "طالية"، بمعنى أن مرحلة العدّ التنازلي قد بدأت، ما يستدعي من الفريق المتأخر في النتيجة مضاعفة جهوده. وإذا بلغ الفارق 10 نقاط، يعلن الحكم "منكار عشرة"، أي أن الجولة تقترب من الحسم، ليشتد التنافس أكثر. الفائز هو الفريق الذي يحرز 40 نقطة أولًا، ليغادر الفريق الخاسر الساحة، مفسحًا المجال لفريق جديد، في دورة تستمر حتى الساعة الثانية فجرًا خلال ليالي رمضان وقد تستمر للسحور خلال العطل الأسبوعية.

لمّة و فنّ شعبي
لا يتخلف علاء الدين عبّاسي، أستاذ اللغة والثقافة الأمازيغية بثانوية أولاد سي سليمان، عن حضور هذه اللعبة، بدافعين أساسيين: الترفيه وحماية الموروث التقليدي. يقول لـ "الترا جزائر": هذه اللعبة عريقة جدًا، لا أحد يعرف تاريخها الدقيق، لكن بحثًا أجريته أظهر لي أنها لقيت رواجًا كبيرًا خلال الفترة العثمانية.
يقول إنّها لعبة تكسر الحواجز الاجتماعية، حيث يجلس الأستاذ والطبيب والقاضي جنبًا إلى جنب مع الفلاح والعامل البسيط، يتشاركون لحظات المتعة بعيدًا عن أي فروق طبقية أو مهنية أو اجتماعية".
تُذيب لعبة "ثومليحت" الفوارق الاجتماعية، وتعزّز التعارف بين المشاركين، إذ تُقام في أجواءٍ من المرح والوِدّ، حيث يتلقّى اللاعبون أحيانًا دعواتٍ كريمة من أشخاصٍ يتكفّلون بدفع ثمن المشروبات والمأكولات لجميع الفرق، تقديرًا للمناخ الترفيهي والسَّهَري الذي يسود المقهى.
تكسر اللعبة الحواجز الاجتماعية، حيث يجلس الأستاذ والطبيب والقاضي جنبًا إلى جنب مع الفلاح والعامل البسيط، يتشاركون لحظات المتعة
يرى بعض أصحاب المقاهي في هذه اللعبة فرصةً اقتصاديةً، حيث تتحوّل محالّهم إلى مقاصدَ شعبيةٍ تستقطب الراغبين في مشاهدة المباريات الحماسية، خاصّةً مع حضور عازفي القصبة، الذين يُضفون على المكان أجواءً من الفرح الخالص واللّهو الحلال.
لا تخلو الجولات من توابل الدعابة والتنمّر اللطيف، إذ يُلزم الخاسر أحيانًا بدفع ثمن المشروبات للفريق الرابح، غير أنّ ذلك لا يُنفَّذ تفاديًا لشبهة القمار والحرام، فيتدخّل متطوّعٌ لدفع الحساب، حتى لو كان من الفريق الرابح. أمّا في جلساتٍ أخرى، مثل جلسة وادي الماء، فإنّ الفرق المنهزمة تُلزم بدفع مبلغٍ ماليٍّ رمزيٍّ، كما يروي كمال عطية، الذي يفضّل متابعة المباريات النارية، قائلا:
"أحيانًا يقوم الخاسرون بدفع مكافأةٍ ماليةٍ يجمعها اللاعبون، لتُمنح لمنشّطي الحفل، كما يحدث في مقهى عمّار سلطاني، حيث يُقدَّم المبلغ للمغنّي حميد أو للقصّاب بوحا أوعبدالله، عرفانًا بجهدهم المبذول في إضفاء أجواءٍ مبهجةٍ على السهرة"
حدس وسيكولوجيا
إلى جانب الترويح النفسي عن الصائمين بعد يومٍ طويلٍ من المشقة، تُكسِر "ثومليحت" الروتين اليومي، وتجدد الطاقة الذهنية. يؤكّد الأستاذ عبّاسي المكنى دعلوش أنّ للّعبة وظيفةً أعمق، حيث يوجزها قائلًا: "هي تدريبٌ على تطوير القدرة الحدسية، إذ إنّ الحدس أحدُ وسائل الإدراك، ولهذا السبب هناك نجومٌ في اللعبة، تميّزوا بقدرتهم على قراءة تعابير الخصوم وتوقّع ردّاتِ فعلهم".
وعن أسرار هذه اللعبة يقول :" اللاعبون المحترفون يعتمدون على إشاراتٍ دقيقةٍ، مثل وضعية الجلوس غير المعتدلة عدم تناظر قبضتي اللاعب، حيث تمتلئ إحداهما بالجسم المخفي، اهتزازات أو ارتعاشاتٍ لا إرادية
تحاشي النظر المباشر، كأن يحدّق اللاعب في السقف أو في زاوية المقهى، السعال المفاجئ، إذ يُقال إنّ بعض الأشخاص يعانون من حساسية المعادن كالفضة أو النحاس، ما قد يُفضحهم عند الإمساك بالخاتم".
على مرّ العقود، برزت أسماءٌ لامعةٌ في اللعبة، اشتهرت بقدرتها الكبيرة على استشعار موقِع الخاتم، مثل الحشّاني من أولاد سي سليمان، محمد أو معوش من تاكسلانت، عبد الباقي من نقاوس، وعمر غابو من شيدي، الصالح مساعدية أو لمروج.
أما خير الدين بن مهدي، ودعلوش، ومنير، فيُعدّون من أبرز الأسماء في السنوات الأخيرة، وخير خلف لأخطر سلف.
يقول خير الدين (39 سنة) ضاحكًا: "أمارس اللعبة منذ عشرين سنة، وكأنني ورثتُ جينوم الشغف من والدي، علي أو عمر، الذي لا يزال من أمهر اللاعبين، وهو بدوره تعلّمها من والده، أي جدّي. أشعر أنّ كلّ جولةٍ أخوضها ليست سوى مراجعةٍ واستذكارٍ لتراثٍ متوارثٍ منذ أجيال":
هناك نجومٌ في اللعبة، تميّزوا بقدرتهم على قراءة تعابير الخُصوم وتوقّع ردّاتِ فعلهم
يشرح خير الدين المهارة المطلوبة قائلًا: "اللعبة تقوم أساسًا على البسيكولوجيا، أي علم النفس. لا مجال للحظّ وحده هنا، بل علينا استغلال الحاسّة السادسة، وفهم "الإشارات" التي تكشف حامِل الخاتم، حيث يصبِح اللاعب كتابًا مفتوحًا أمام من يُحسن قراءته. وعليه فاللاعب الماهر هو من يخفي الخاتم بمهارة، ومن يكشفه بحنكة".
اللافت في علاقة خير الدين باللعبة، هو أنّه يشارك أحيانًا في نفس الجلسات مع والده، لكنّه يرفض مواجهته، مبرّرًا ذلك بقوله:"
من يعرفني هنا يدرك أنّني لا أكون طرفًا أبدًا في جولةٍ يكون فيها أبي خصمًا. هذا مبدأٌ لا أتخلّى عنه، احترامًا له. فإذا خرج من اللعبة، دخلتُ، وإذا دخل، انسحبتُ، حفاظًا على تلك المسافة الأخلاقية التي يجب أن تبقى بيننا".

بطولة " سادة الخواتيم"
تختم الباحثة حميدة شوشان حديثها، مشيرةً إلى أنّ الألعاب والفنون عمومًا تُعدّ منتجاتٍ حضاريةً، تُستخدم كوسائل تنفيسٍ وترفيهٍ، تعوّض الإنسان عن أعباء العمل، والفلاحة، والصيد، والبناء.
وتُضيف: "ثومليحت، تعمل من الجانب الفردي على تنمية الذكاء، المراوغة، ضبط النفس، وبرودة الأعصاب. كما تعزّز قدرة تحليل الشخصيات، عبر دراسة وضعيات الجسد، وحركات اليد، والتوتر الظاهر على حامل الخاتم.
هذا النّوع من الحدس الاستبصاري يتطوّر عند الأطفال الذين يتابعون اللعبة، مما ينعكس لاحقًا على قدراتهم في قراءة لغة الجسد، وهو علمٌ حديثٌ مارسه أسلافُنا بفطرتهم.
كغيرها من الألعاب الشعبية، فمن الناحية الاجتماعية، تُعدّ اللعبة حاضنةً للروابط الإنسانية، حيث توفّر فرصةً للتعارف، والتآلف، واكتساب روح الفريق، كلّ ذلك في أجواءٍ من الضحك والتسلية، ليبقى هذا الموروث الشعبي شاهدًا على عبقرية الأجداد في صنع الفرح الجماعي والتشارك فيه خاصة في المواسم التي تتسم بالصفاء والروحانية مثل رمضان".
لا مجال للحظّ وحده في هذه اللعبة بل وجب فهم "الإشارات" التي تكشف حامِل الخاتم، حيث يصبِح اللاعب كتابًا مفتوحًا أمام من يُحسن قراءته
تنظم جمعية تازيري بين الفينة والأخرى دورات للعبة ثومليحت بينها وحدة فاز بها فريق خير الدين منذ ثلاثة أعوام، كما تقدم كنموذج قار في احتفالات شهر التراث.
وفي هذا الصدد يقول بن يزة: " تمثل جزءًا من الهوية الثقافية لمنطقة الأوراس، حيث كانت تُلعب في الأعراس والتجمّعات العائلية، وأصبحت اليوم طقسًا رمضانيًا متجذّرًا، ونحن نسعى لحمايتها من زحف التكنولوجيا والألعاب الإلكترونية، ولهذا ننظم هذه الجلسات والدورات بهدف توثيقها والترويج لها بين الأجيال الصاعدة، لضمان استمرارها. من حسن الحظ أنها صارت تمارس بين الأطفال في السنوات الأخيرة خاصة في البلديات الغربية للأوراس".
الكلمات المفتاحية

ذاكرة المدينة على الواجهة البحرية.. رؤية معمارية مستلهمة من الجزائر القديمة
في خضم التطور المتسارع والتحولات العمرانية، يصبح الحفاظ على هوية المدن ضرورة ملحة لضمان تميزها وأصالتها.

بينهم 6 أطفال.. حادث مرور خطير يُخلّف 7 جرحى بالبويرة
أُصيب 7 أشخاص من بينهم 6 أطفال، إثر اصطدام بين سيارتين بولاية البويرة.

طقس الجزائر.. أمطار رعدية مرتقبة على بعض الولايات
ستكون الأجواء من غائمة إلى مغشاة محليًا على غرب البلاد بداية من أواخر الظهيرة

إدانة محمد بوعكاز مدير تشريفات الرئيس تبون السابق بـ5 سنوات سجنًا نافذًا
أدانت محكمة بئر مراد رايس بالعاصمة، اليوم، المستشار السابق لرئيس الجمهورية المكلّف بالمديرية العامة للتشريفات، محمد بوعكاز، بعقوبة خمس سنوات حبسا نافذا، مع تغريمه بمبلغ مالي قدره 200 ألف دينار جزائري.

بعد أخبار استجوابه ومنعه من السفر.. عمر ربراب يخرج عن صمته
نفى عمر ربراب، عضو مجلس إدارة مجموعة سيفيتال، ما تم تداوله في وسائل إعلامية بشأن استدعائه من قبل المديرية العامة للأمن الداخلي أو منعه من مغادرة البلاد عبر أحد المطارات.