18-أكتوبر-2019

الحراك الشعبي في الجزائر يتواصل للأسبوع الخامس والثلاثين (مصطفى حسونة/ الأناضول)

إنّ الكتابةَ التّي سايرت الحِراك هي أيضًا حِراكٌ على صعيد الأفكار والمفاهيم والتصوّرات؛ إذ أنّ قدرَ الكتابةِ هو أن تكون مُرافقة لتحوّلات الواقع، انطلاقًا من مبدأ الالتزام بوظيفة تفسير وفهم الحراك التاريخي.

قد يفهم البعض بأنّ الانضمام إلى الحراك يستدعي الاكتفاء بالمسيرات الأسبوعية

 التاريخ يُنتج مفاهيمه والواقع يختبرها أمام محكّ التجربة، ثمّ تأتي الكتابة محاولة وضع ما تمخّض في الواقع داخل نسق من الأفكار والتصوّرات.

اقرأ/ي أيضًا: هل يفرض الحراك الشعبي منطقه على الجيش؟

قد يفهم البعض بأنّ الانضمام إلى الحراك يستدعي الاكتفاء بالمسيرات الأسبوعية، ورفع الشعارات وإطلاق العنان للأهازيج التي يتفاوت مداها بحسب ما استجدّ في الساحة السياسية من وقائع وقرارات، وهجر المواقع الفكرية ورمي الأقلام بعيدًا، في حين أنّ فهما كهذا للالتزام هو قاصر إلى أبعد الحدود، لأنّ الانخراط في الحركيات التاريخية يكون أيضًا بنقلها إلى الكتابة.

 الحراك نفسه قد لا يعي من كونه ظاهرة في حاجة إلى من يفسّر أنساقها وأبعادها، وفي حاجة إلى فهم ما نتج عنه من ظواهر ومقولات وتصوّرات ومظاهر؛ سواءً أكانت إيجابية أو سلبية، فقد ينادي الجميع بصوت واحد بالحرّية وبالديموقراطية وبالعدالة لكننا لو اجتمعنا حول مائدة حوارية قد نختلف في دلالات هذه المقولات، وقد ننتهي إلى فضّ الاجتماع دون أن نرسو على معنى واحدٍ للحرّية، وقس على ذلك مفاهيم أخرى.

من هنا، فإنّ الكتابة عن الحراك هي تحويل الحراك إلى ضرب من المفهوم، مثلما أنّ الكتابة عن الثورة يحوّل الثورة إلى مفهوم وإلى مجموعة من الأفكار التي قد تتضارب فيما بينها حد التناقض.

لقد بدأت تظهر كتابات عن الحراك، بين مقال انطباعي وتحليلي وبين عمل إبداعي يُحاول بناء متخيّل جديد ينبع من داخل الحراك. أكيد أننا لا يمكن لنا الحكم مسبقًا على هذه الكتابات، فهي شهادات آنية رافقت الشارع في ثورته.

 لكن ما يهمني شخصيًا ليس ما يُمكن للكتابة أن تقدّمه للثورة، بل ما يمكن للثورة أن تقدّمه للكتابة، لأنّ حراك الشارع بوصفه ثورة على أنظمة قديمة قد يكون دعوة مبطنة لأجل كتابة تجدّد أساليبها ورؤاها لتتصالح مرّة أخرى مع واقع جديد في طور التشكّل.

لا يتعلقُ الأمر هنا بكتابة استعجالية، بقدر ما هي كتابة واعية بموقعها التاريخي. فهناك من لا يجد حاجة إلى الكتابة عن الحراك من منطلق أنّ الكتابة في زمن التحوّلات هو ترفٌ لا فائدة منه، وهؤلاء يؤمنون بأنّ للحراك عقلًا ذاتيًا يتحكّم في نفسه، ولا يحتاج إلى من يرسم له معالم طريقه، وهؤلاء يشكّكون في وظيفة النخب المفكّرة، وهنا نفتح مسلكًا آخر لفهم علاقة الكتابة بالحراك، وأقصد به دور النخب في الفترات السابقة ودورها اليوم في زمن الحراك الشعبي.

لا نُنكر بأنّ هذه النخب -وليس جميعها- قد وقعت في فخّ الصمت إزاء ممارسات السلطة السابقة، بل منها من دافع عنها، وعاش تحت جناحيها، تقتات مما يُلقى عليها من فتات الميزانيات الشحيحة المخصّصة للثقافة، وهؤلاء أيضًا لم يكونوا مكترثين بالأسئلة الصعبة التي لها علاقة بحقوق الإنسان، وبالمظالم السياسية والاجتماعية وبالكوارث الاقتصادية، بل غرقت في حالة سبات لذيذٍ داخل أحضان السلطة غير مكترثة بآلام المقهورين.

وفي الوقت نفسه، كانت بعض الأقلام الناقدة للسلطة والتي التزمت بنقد ممارساتها، تعاني من إقصاء متعمد ومن إجحاف ثقافي واجتماعي، ومن تقزيم لدورها بل وتخوين في أحايين أخرى، وهذا الصنف على قلته، ظلّ يشتغل في الظل، بسبب الحصار المضروب عليه، بحيث لا يصل صوته إلى عامة الناس.

الكتابة عن الحراك هي استعادة للصوت المقموع، وتفجير للكبت السياسي ومرافقة واعيةٍله 

إنّ الحراك، في تصوّري، حرّر بقايا هذه النخب من ذلك الحصار، بل وجعلها تستعيد ذلك الأمل المفقود بأن لا دور لها في المجتمع. الكتابة عن الحراك هي استعادة للصوت المقموع، وتفجير للكبت السياسي، ومرافقة واعية له من زاوية تأطير الحراك على صعيد الأفكار والمفاهيم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

القراءة في زمن الحراك.. إرباك سياسي وشغف معرفي

الخطاب الإعلامي بعد الحراك الشعبي في الجزائر