24-يوليو-2022

مشكلة التخصصات الجامعية وجدواها في المجال الاقتصادي تطرح عدة تساؤلات في الجزائر (كاترينا إيقلو/Getty)

"فرِحت لنيلي شهادة الباكالوريا، تحقيق حلمي هو نيل الشهادة وولوج أرقى الجامعات واختار التخصص الذي لطالما حلمت به البيولوجيا، لكن المعدل يكفي لذلك بينما العلم في بلدي بات كابوسًا، فلدي عينة من أقاربي من مرت عليهم الحياة الجامعية بلمح البصر في النهاية هل هناك مختبرات فعلًا وهل سيكون الطموح مجرد في العقل".

لم تتجاوز الجامعة الجزائرية برأي كثيرين طرق التدريس التقلدية التي تعتمد على تزويد الطالب بالمعلومات النّظرية فقط بعيدًا عن الميدان 

هكذا تختصر "إيمان. خ" (18 سنة) والمتحصلة على شهادة البكالوريا علوم طبيعية وحياة، مرحلة ما بعد فرحة الباكالوريا، فليس التحدي الأكبر الذي يواجههم هي اختيار التخصّص في الجامعة، رغم معدلها الجيّد كما تقول، لكن المشكلة الأكبر هي مدى إجرائية هذه التخصص وغيره مع طموح الطالب. فهل تحترم الجامعة طموح العشرات من النوابغ والمتفوقين؟ كما تساءلت هذه الطالبة الجديدة في الجامعة.

في غمرة هذه اللّحظة الاجتماعية التي يقرّ أغلب الناس أنه لا يمكن تعويضها بأي نجاح آخر مهما علا شأن الشهادة التي ينالها الممتحنون، أطلّت فئة أخرى برأسها لتعرّي هذه النتائج، إذ ربطته بالقيمة الذي توليه السّلطة السياسية في البلاد للعِلم وللمتفوّقين وللنّوابغ، معتبرة أن المسار التعليمي في البلاد وجب إعادة النّظر فيه.

التّكوين حجر الزاوية

خلال محطتهم الانتقالية من الثانوية إلى الجامعة، لم يتخلّص الطلبة من طرق التكوين التي تعتمد على الحفظ والحشو، وهي من الأسباب الموضوعية في تدنّي التكوين برأي عدد من الأساتذة في تصريحاتهم لـ"الترا جزائر"، إذ لم تتجاوز الجامعة بعد من طرق التدريس القديمة المتصلة أساسًا بحشو ذهن الطالب بالمعلومات النّظرية بعيدة عن الواقع من جهة وغير ممكنة التحقيق ميدانيًا أو بشكل أوضح بالتجريب من جهة أخرى.

مع الإعلان عن نتائج الباكالوريا يتجدّد طرح عدّة مسائل من قِبل الأساتذة والمهتّمين بالشّأن التربوي سواءً على مستوى المدارس أو الجامعات، إذ تساءل أستاذ التاريخ  بجامعة المدية وسط الجزائر رشيد ولد بوسيافة عن نوعية التكوين وما ستقدمه الجامعة من تكوين لتحقيق طموحات الناجحين في شهادة الباكالوريا.

وقال ولد بوسيافة إن التّكوين النّوعي يحتاج إلى توفير طاقم بيداغوجي مؤهّل لتقديم دروس بمواصفات دولية، خاصة ما تعلق بالمدارس العليا الجديدة، كالمدرسة العليا للرياضيات والمدرسة العليا للذكاء الاصطناعي، وغيرهما من الكليات التي وجب أن تنسجم مع متغيرات العصر والتكنولوجيات الحديثة.

ثروة العقول

لا يختلف كثيرون في نظرتهم للتكوين التربوي في الجزائر، وما تعرفه الجامعة من تحولات بعد إقرار نظام قصير المدى أو ما يسمى بنظام " أل أم دي " أي ليسانس وماستر ودكتوراه طور ثالث، غير أن التوجيهات والتخصّصات في الجامعة تهلم الكثيرين باختيارها فيما يجدون صعوبات في الحصول على الاختيار المناسب تماشيا مع مخرجات الثانويات، فيما يصطدم البعض بتكوين غير متناسب مع التطور التكنولوجي.

وفي هذا المضمار تحدّثت سعيدة زواغي أستاذة في العلوم الطبيعية بثانوية " عبد الحفيظ بو الصوف" بولاية ميلة شرق الجزائر، عن استثمار هذه العقول من النوابغ لأنها " ثروة بشرية أكبر من الثروات الطبيعية الأخرى" مشددة على ضرورة تكييف المدارس الجهوية مع متطلبات الاقتصاد الجزائري إذ بإمكان ثروة النوابغ أن تقدم للجزائر الكثير".

وأضافت في هذا المنحى، أن السبيل لذلك هو التكوين الجيد للأساتذة، مشددة على ضرورة "رسكلة قطاع واسع من أساتذة التعليم العالي من أساتذة ومعيدين وأساتذة باحثين ومشاركين للوصول إلى هذا الاستثمار التربوي".

عتبة الجامعة

العملية التعليمية في هذه المنظومة، تشبه إلى حدّ بعيد مجموعة حلقات إن فلتت إحداها تبعثرت الأخرى وبذلك تشتت المجهود وتبدد، بهذه الصورة وصف البعض قطاعي التربية والجامعات وخصوصًا العتبة الأولى منذ نيل شهادة الباكالوريا والولوج إلى الجامعة، إذ هي بذلك الحلقة الأقوى والأضعف في آن واحد.

ووفق هذه الرّؤية، تساءل الأستاذ في علوم التربية ياسين ونّوغي من جامعة الجزائر عن "جدوى المعدّل الأعلى في بلد لا يقدّر النخبة أو العلم وأهله؟"، مضيفًا بأنه:" لا طعم لأعلى معدل في منظومة تعليم عالي تتخبط في وضع بائس بيداغوجيًا وبحثيًا".

من جهته، اقترح الأستاذ فريد عمران إعادة بناء للمنظومة خاصة وأنها لا تتساوق حسبها مع مخرجات سوق العمل، لافتا في إفادة لـ"الترا جزائر" أن الأهم هو إيجاد خيط ناظم بين تخصصات الناجحين في الباكالوريا في الثانوية ورغباتهم في الجامعة من جهة، ثم شدد على أن الدراسات العليا التي يرتبط ميدانها بسوق العمل، تبقى نظريًا فقط رغم أهمية الأخير، لأنه بعد التخرج سيصطدم بالواقع.

النقاط لا تكفي

فتحت هذه الآراء الكثير من الشجن، على حال المنظومة التربوية، إذ حاول عديد الأساتذة تشريح الوضعية وإيجاد حلول لها، غير أن الكثيرين ربطوا ذلك بمناهج التعليم الجزائرية التي لم تتخلص بعد من ترسبات الماضي واستفحلت فيها مظاهر عديدة من مخلفات التجارب الإصلاحية التي عرفتها المنظومة التربوية.

ويعتقد المهندس في الميكانيك البروفيسور أحمد محيجبة أن رفع مستوى التعليم في الجزائر لا يعني أبدا المعدلات التي هي في نظره مجرد أرقام، لافتا في إفادته إلى أن الحصول على التوعية في التكوين لا تمر عبر ما أسماه بـ"قسوة التنقيط" التي "تصرف طلاّب العلم عن الهدف الرئيسي من التعليم. وتجعلهم يركزون فقط على اجتياز الامتحان بكل الطرق. بما في ذلك التحايل والغش والرشوة والمحسوبية".

وأضاف قائلًا رفع المستوى العلمي والمعرفي و المهاراتي لن يحصل إلاّ في ظروف بعيدة عن الضغط، والقلق والظلم، وعبر توفير ظروف المتعة في التعلم التي تنشط أعصاب الإبداع، ويتّم عبر تثمين العلم والتعلم من خلال ربطه بظروف مهنية واجتماعية عالية، وتخضع بدورها لمعايير الجودة والمراقبة والمنافسة التي يتساوى فيها الجميع".

يشدد كثيرون على ضرورة الاعتماد على سياسة شاملة لرفع مستوى التعليم تنسجم مع القطاع الاقتصادي 

يعتبر الكثيرون الأرقام والمعدلات العالية في الباكالوريا بمثابة الشجرة التي تغطي الغابة، مشددين على ضرورة وضع سياسة شاملة للرفع من المستوى التعليمي، تخضع لأجندة ومحاسبة ترتكز أساسًا على خلق شبكة متواصلة ويدعم أطرافها بعضهم البعض تضمّ التلميذ ثم الطالب والأستاذ والإدارة والبحث العلمي، تنسجم بدورها مع القطاع الاقتصادي الذي يستفيد بدوره من وعاء التكوين.