16-أكتوبر-2020

صورة من أحد أحياء الحراش بالعاصمة (تصوير: جولي روبين/أ.ف.ب)

كنت مقيمًا في بيئة جزائريّة ساحليّة تتفهّم ألّا يملك الواحد  بيتًا، فثقافة الإيجار والقصدير فيها سائدة بشكلٍ صارخٍ، وهي في العادة تنتظر أن تُمنح سكنًا من طرف الحكومة، فلا يقلّ انتظار بعض أسرها عن عشر سنوات، حتّى أنّ الطّفل الذّي يولد يوم إيداع والده لملفّ الحصول على سكن يصبح هو بحاجة إلى سكن عند حصول والده عليه، لكنّها لا تتفهّم ألا يملك سيّارة. 

أخبرني صديق طبيب بأنّه يستقبل حالات تعاني فقر الدّم بسبب سوء التّغذيّة التّي يفرضها حرص الآباء على إنجاز بيت

قف فجرًا أو مغربًا، أمام حيٍّ شعبيٍّ بسيط، أو تجمّع سكنيٍّ فوضويٍّ في إحدى المدن السّاحليّة والمدن القريبة من البحر حتّى وإن كانت لا تطلّ عليه، حيث تكاد السّقوف فيه تسقط على الرّفوف، وستلاحظ أن سكّانه يملكون سيارات ينافس بعضها سيّارات الأحياء الرّاقية. بل إنّك قد تجد مركبات من الوزن الثّقيل من ذلك النّوع الذّي لا تملكه إلا العائلات الميسورة ماليًّا. 

اقرأ/ي أيضًا: زيارة وفد البنك العالمي إلى الجزائر.. البحث عن الضمان الخارجي

استعان بي أحدهم مرّةً في الجزائر العاصمة في الحصول على سكن اجتماعيّ، فراح يسرد عليّ جملة من العذابات التّي يعانيها هو وأسرته في الحيّ العشوائيّ جعلتني أتعاطف معه من غير أن أراها. وحتّى يعزّز فيّ ذلك التّعاطف دعاني إلى معاينة الحيّ، فأدهشني أنّه يملك سيّارة له وأخرى لولده البكر وشاحنة تبريد لنقل السّلع!

ثم انتقلت إلى بيئة داخليّة تتفهّم ألا يملك الواحد سيّارة. فثقافة "الستوب" واستعمال وسائل النّقل العامّ منتشرة فيها بشكل صارخ، إذ يمكن أن نرصد ذلك باستعمالنا لطرقاتها، لكنّها لا تتفهّم ألّا يملك بيتًا. قف في أيِّ تجمّع سكنيّ فيها، وستلاحظ أن الإنسان هناك يخوض مكابدات أسطوريّة ليؤمّن سقفًا، ولو على حساب مطلوبه من الغذاء.

لقد أخبرني صديق طبيب، في مدينة داخليّة، بأنّه يستقبل حالات تعاني فقر الدّم بسبب سوء التّغذيّة التّي يفرضها حرص الآباء على إنجاز بيت، فيعملون على الدّخول في تقشّف حادّ تصبح فيه اللّحوم والأجبان والأسماك والفواكه، وما إليها من الأغذية الضّروريّة لنموّ الجسم أو لبقائه سليمًا من الأحلام. وقد يحصل هؤلاء على سكن جاهز من الحكومة، لكنّهم يستمرّون في التقشّف لأجل توسعته أو تحسينه أو تجهيزه أو هذه كلّها.

إننا بصدد بيئتين جزائريّتين تشتركان في العناصر الكلاسيكيّة للهوّية، من لغة ودين ومذهب فقهي، لكنّهما تختلفان في النّظر إلى مفهوم المعيشة أو ما يسمّى في القاموس الشّعبيّ "التّاويل"، وهو عنصر علينا أن نضيفه إلى عناصر هوّية منطقة ما، حيث تعتمد البيئة السّاحليّة على البهرجة والاستعراض، من ذلك حرصها على السّيّارة قبل البيت، فيما تعتمد البيئة الدّاخليّة على الواقعيّة وعدم التكبّر على الأصناف العضلية من العمل، من ذلك حرصها على السّقف قبل السيّارة.

وقد كرّس هذا الواقع ظواهرَ مرهقة في مجال السّياحة والشغل مثلًا. فالمواطن السّاحليّ يهبط إلى الدّاخل ليشتغل، إذ سوف تدهشنا نسبة السبّاكين والحلّاقين والبنّائين والسّوّاق القادمين من المدن البحريّة إلى "الجزائر العميقة"؛ فيما يصعد المواطن الدّاخليّ إلى السّاحل ليتفسّح، بعيدًا عن روح الاختيار. وقد كان كلّ منهما قادرًا على أن يحقّق مرغوبه في عين المكان إلا إذا أراد هو ذلك أو اضطرّته علاقاته الاجتماعيّة إليه.

ماذا لو ملكنا منظومة حاكمة واعية بالرّهانات الحقيقيّة منذ فجر الاستقلال الوطني، وعادلة في توزيع ثروات البلاد، ومدركة لكيفيّة رسم الخارطة الاقتصاديّة، وفق طبيعة الإمكانيات والاحتياجات والميولات العامّة؟ لكنّا جعلنا امتلاك السّقف والسّيّارة كليهما أمرًا عفويًّا غير خاضع للمفاضلة وفق منطق الأولويّة، ولانتقل منطق المفاضلة هذا إلى أمزجة المواطنين، لا إلى حقوقهم. وهو ما يُسمّى فنّ العيش.

إنّه واقع أثمره غياب ثقافة التّخطيط في تسيير العمران الوطنيّ من طرف الحكومات المتعاقبة. وعوض أن ينتج لنا هذا الاختلاف في خصوصيات مناطقنا ثراءً وتبادلًا في الفرص، وفق الإحساس بالوحدة الوطنيّة، أنتج لنا حسدًا وتشنّجًا بينها وصل بنا إلى أنّنا أصبحنا نسمع المواطن يتحدّث عن أولويّة منطقته بالثّروة الطّبيعيّة التّي تنتجها، منسلخًا بذلك عن إيمانه بالتّكامل الوطنيّ. وهو معطًى سيلعب دورًا في تفكيك الوحدة الوطنيّة وتهديد الأمن القوميّ العام.

هل مات مليون ونصف مليون من الشّهداء ليكون حلم أبناء الاستقلال امتلاكَ سيّارة أو سقف

هل مات مليون ونصف مليون من الشّهداء، وهو عدد يفوق عدد الأحياء في سبع وستّين دولة عضو في هيئة الأمم المتّحدة، ليكون حلم أبناء الاستقلال امتلاكَ سيّارة أو سقف، تمامًا كما كان الوضع عليه قبل ثورة التّحرير؟