02-سبتمبر-2020

الجزائر تسجّل 45 ألف حالة ولادة خارج إطار الزواج سنويًا (تصوير: فاروق باتيش/أ.ف.ب)

لم تَكُفّ نورية (52 سنة) عن طرح تساؤلات لم تلق لها إجابات تُشفي غليل صدرها في رحلة بحثها عن والديها، كما أنّ المرأة التي تكفّلت بها، وظلّت تتحاشى أن تفتح جراحها المثخنة منذ بلوغها سنّ العاشرة، إذ تقول: "أمي التي ربّتني أو يقال إنّها أمي، لم تعطني فرصة معرفة من أنا؟ وأين هي والدتي ووالدي، ومن أين جئت وأين وُلدت. توفيت وتركت في قلبي جرحًا لن يندمل إلى أن أعرف الحقيقة".

45 ألف حالة ولادة خارج إطار الزواج تسجل سنويًا في الجزائر

ابنة الأوراق

في لقاء بالسيدة نورية، اعتبرت أن اللّقب الذي يحمله أي مولود، في نظر البعض "مجرّد حروف"، لكنه في المقابل، تضيف المتحدثة، "هو كلّ شيء عندما تبحث عن تسجيل في مدرسة لأوّل مرة، وتلك هي الصدمة الأولى التي تقع على رأس طفل في عمر الزهور، حيث يعرف بأنه غير مقبول في المدرسة إلا بوثيقة إثبات نسب أو كفيل. تكتشف أن لقبك هو من سيقهرك طول الحياة".

اقرأ/ي أيضًا: مجهولو النسب بالجزائر.. دون حقوق أو هوية

تردف نورية في حديث إلى "الترا جزائر"، أن "اللقب ما هو إلا حروف مشكّلة من ماضٍ ونسب وحاضر، هو عذابي الآن وعذاب الآلاف، ومستقبلهم في مواجهة الحياة والجيران والشارع والمحيط والمدرسة، والبحث عن وضع ملف سكن، والبحث عن وظيفة، ووثيقة هوية بحثًا عن جنسية، هو لقب يُمنَحُ للأطفال مجهولي الهوية أو النّسب كما يُطلق عليهم".

 تصف المتحدثة نفسها بـ"ابنة الورقة". تقول هذا الكلاموهي غير راضية عن هذا الوصف الذي بات لصيقًا بكلّ من تركته أمه ووالده يواجه وحده الدنيا من يومه الأول دون اسم ولقب، تستدرك قائلة: "نعم، الأجدر أن أقول اليوم الذي تم التخلّي فيه عن فلذة الكبد بعد غلطة بين اثنين".

مشكلة منذ يوم الميلاد

اليوم صار وصفُ "ابن غير شرعي" عارًا، وصار من يبحث عن والديه الحقيقيين أكثر من عار، بل بشرًا من الدرجة الثالثة؛ هذه الجمل القاتلة، كثيرًا ما نصطدم بها في المحاكم الجزائرية، وتستمرّ مع أصحابها على مدار سنوات، من يوم الميلاد إلى يوم الوفاة.

اجتماعيًا، تنادي أصوات كثيرة بضرورة إيجاد مخارج قانونية، تزيح هذا الثقل على ظهر هذه الفئة التي صارت على الهامش في المجتمع، حيث منحت الحكومة الجزائرية مؤخّرًا، الضوء الأخضر، بمرسوم قانون جديد، يقضي، بجواز الأسر أن تمنح ألقابها العائلية لأطفال غير معروفي النسب في حال تم التكفّل بهم، وهذا القرار الذي أفرجت عنه الوزارة الأولى ووقع عليه الوزير الأوّل عبد العزيز جراد، أحدث جدلًا واسعًا في الجزائر بين القانونيين والمواطنين، وخلق معه العودة للحديث عن التبني، الذي لا يُسمح به في الجزائر.

ترحيل المأساة من مكتب إلى آخر، هو معضلة الأطفال "دون نسب"، تقول السيدة سكينة التي وجدت نفسها تلهث للحصول على كفالة طفل من دار الأيتام بالأبيار بالعاصمة الجزائرية. الرحلة لم تكن سهلة على حدّ تعبيرها، بل شقت فيها عديد المسارات التي أوصلتها إلى حدّ تدخل العديد من الأطراف الفاعلة في وزارة الأسرة والحماية الاجتماعية، لتسريع دراسة ملف الكفالة، الذي استغرق مدّة أربع سنوات ونصف.

تقول السيدة سكينة في حديث إلى "الترا جزائر" أن "الله منّ عليّ أن أتكفل بأربعة أطفال، منهم من هو في دفتري العائلي تحت تسمية ابن كفيل، والبقية عبارة عن كفالة غير مباشرة، صرت اليوم ربّة أسرة بعد أن يئست من الإنجاب أنا وزوجي"، لكنها تستدرك: "إنها رحلة عذاب للحصول على كفالة طفل، لكنها في نفس الوقت منحة من الله".

تتحّسر المتحدثة عن الصعوبات التي يجدها الأطفال في إيجاد مشروعية لوجودهم قائلة: "أعرف أن الطريق ليس سهلًا في منظومة تحتكم للشريعة الإسلامية، نحن نريد أن يتربّى طفل مجهول الوالدين في كنف أسرة ترعاه؛ فمنح اللقب العائلي هو تقنين للكفالة فقط وليس تبنيًا".

من جهته، يعتقد المحامي نور الدين بن زهرة في حديثه إلى"الترا جزائر" أن الحكومة، أعادت ملف الكفالة إلى النور، بعدما عاش سباتًا لمدة 28 سنة، قائلًا إن القرار ليس وليد اللحظة، بل هو قرار قديم تم تجديده بالتعديل فقط؛ إذ سبق للجزائر أن عرفت مرسومًا في فترة رئاسة الحكومة من طرف سيد أحمد غزالي في سنة 1992، يُعطي للكافل حقّ أن يمنح لقبه العائلي للطفل المكفول مجهول النسب، ويفصل فيه على مستوى وزارة العدل، حيث يُدرج هذا اللقب في عقد ميلاد (12) للطفل، مع إضافة عبارة (مكفول) لأن الأمر ليس تبنيًّا".

أمّا المرسوم الذي أعلن عنه الوزير الأوّل جراد مؤخّرًا، فهو "يمكّن الأطفال مجهولي النسب، من الاستقرار في المجتمع الذي ظلمهم كثيرًا على مستوى العديد من الهيئات الرسمية" يقول المحامي بن زهرة، لافتًا إلى أن "الاستقرار في عائلة مع مرور السنوات خصوصًا في السنوات السبع الأولى مهم للأطفال، وبعدها بإمكان الوالدين الذين تكفّلا به أن يكشفا له الحقيقة".

في هذا الصدد، من الواجب التذكير بأنه في كل الدفاتر العائلية الخاصّة بالمكفولين توجد عبارة "مكفول"، وهي بالتالي تقطع الطريق أمام منافسته لحق الأطفال الشرعيين من الميراث، وهذا في حدّ ذاته يحول دون "اختلاط الأنساب" ومشاكل كثيرة تعرفها المحاكم الجزائرية، خصوصًا بعد وفاة الوالدين اللذان كفلا هذا الطفل.

حكاية بلا نهاية

أرقام غير رسمية كشفت عنها مؤخّرًا الرابطة الجزائرية للدفاع عن حقوق الإنسان، تفيد بـ "وجود أكثر من 45 ألف حالة ولادة خارج إطار الزواج تسجل سنويًا في الجزائر"، وهو الرقم الذي يعني حسب مختصّين في علم الاجتماع الأسري، "عبارة عن 45 ألف ملف يحتاج للتكفل من طرف الدولة، ومن طرف مؤسّساتها"، تقول الأستاذة في علم الاجتماع بجامعة عنابة سلمية مصباحي لـ "الترا جزائر".

تتحدث مصباحي حول أن "معضلة آلاف الأطفال لا تكمن في الذي يمنحهم اللقب فقط، ولكن في جانب آخر لا يعيشه إلا الوالدان والطفل المكفول؛ إذ يعرف الطفل فصولًا من المشاكل اليومية منذ أن يطأ المدرسة، وتبقى تلك المشاكل ترافقه إلى غاية شبابه ثم كهولته".

من جهة أخرى، توجد آلاف الأسر التي تتوق لأن تتكفّل بأيتام، في وقت يوجد العشرات من الأطفال في المراكز المسعفة، يعيشون في تلك الدّور التي هيّئتها الدولة لـ "أبناء الدولة" كما يُطلق عليهم، لكن من المؤسّف أن يجد هؤلاء أنفسهم بعد بلوغهم سن الثامنة عشرة، مطالبين بحزم أمتعتهم ومغادرتها، ببلوغهم السن القانونية للاعتماد على النفس، كما تقول المحامية وداد بلعطار لـ "الترا جزائر"، مستطردة: "نطالب الحكومة أن تجد مخارج قانونية لهؤلاء، لأن المركز يلفظهم، والشارع يستقبلهم، فأين المفرّ؟"، كما قالت.

ملفّ الأطفال "مجهولي النّسب" فيه الكثير من التفرّعات القانونية

ملفّ الأطفال "مجهولي النّسب" فيه الكثير من التفرّعات القانونية، وهي نفسها تؤدّي إلى تشعّب يومياتهم وحياتهم في الجزائر، خاصّة بسبب عسر إجراءات الكفالة التي يبدو أنها من الوهلة سهلة، ومنح اللقب لهم، يمر عبر تقديم "طلب أمام وكيل الجمهورية لدى محكمة الاختصاص، بعد أن كان الطلب يقدّم مباشرة أمام وزير العدل"، غير أن هذه الطلبات طالما تصطدم بظروف بيروقراطية أزّمت وضعية عشرات العائلات الراغبة في التكفّل بالأطفال.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الأطفال مجهولو النسب.. مرسوم جديد يمنحهم ألقابًا عائلية

كفالة الأيتام في الجزائر.. أحلام الأطفال المبتورة