بينما كان ينتظر كثيرون أن ترتفع قيمة المبالغ المسموح بتحويلها من العملة الصعبة بالنسبة للمواطنين، خاصّة المسافرين إلى الخارج، وفي وقت كان الخلاف قائمًا على حول رفع إجراءات الاستفادة من العملة الصعبة من البنوك للقضاء على السوق السواد، جاء قرار البنك مفاجئًا لكثيرين، رغم وجود طرق وبدائل يعتمد عليها الجزائريون في تسوية هذه المسألة دون الحاجة للبنوك.
الهواري تيغريسي لـ "الترا جزائر": تنظيم تداول العملة الصعبة في الجزائر يتطلب بشكل أساسي فتح مكاتب صرف معتمدة، تكون مهيئة للعمل وفق معايير شفافة
في خطوةٍ تعتقد السلطات الجزائرية أنها تهدف إلى تعزيز الشفافية المالية والحد من تهريب الأموال عبر الحدود، أصدر بنك الجزائر قرارًا جديدًا يحدد سقف المبالغ المسموح للمسافرين بإخراجها من البلاد بالعملة الصعبة بـ7500 أورو أو ما يُعادلها مرة واحدة فقط في السنة المدنية.
فالإجراء، الذي وقّعه محافظ البنك المركزي صلاح الدين طالب ونشر في العدد 77 من الجريدة الرسمية، يُلزم المسافرين بإظهار إشعار سحب من البنك لكل مبلغ يفوق هذا السقف، كما يتضمّن النظام الجديد ترتيبات إضافية تتعلّق باستيراد وتصدير النقد الأجنبي، في خطوة ترى المصالح المالية في الجزائر أنّها تستهدف تحسين الرقابة المالية وتعزيز امتثال التعاملات النقدية مع القوانين، إلا أنّ كل ذلك يتطلّب حسب الخبراء تنظيم سوق العملة الصعبة في الجزائر وفتح مكاتب صرف واحتواء السوق الموازية في أسرع وقت ممكن.
خلفيات القرار
وفي تصريح خاص لموقع "الترا جزائر"، أوضح مصدر مسؤول في بنك الجزائر أن القرار الأخير الذي يحدد سقف إخراج العملة الأجنبية بمقدار 7500 أورو يهدف بشكلٍ أساسي إلى تقليص ظاهرة "تجارة الشنطة" أو "الكابة" والحد من تهريب الأموال التي تضرّ بالاقتصاد الوطني، وقد جاء هذا القرار في وقت حساس، حيث أن الإجراءات الأخيرة التي تركزت على منع استيراد بعض المواد المنتجة محليًا أدت إلى انتعاش غير مسبوق لهذه التجارة غير المشروعة في الأشهر الأخيرة، والتي تعد جزءًا من نشاطات التهريب.
ويعتبر البنك المركزي أن الحد من هذه الظاهرة أصبح أمرًا ملحًا، إذ أن التجارة الموازية للعملة تؤثر سلبًا على استقرار السوق الرسمية وتقلّل من قدرة السلطات على التحكم في حركة الأموال، كما شدّد المصدر على أن القرار يتضمن تدابير مشددة تهدف إلى محاصرة "مهربي العملة" الذين يعملون على تهريب الأموال عبر الحدود بطرق غير قانونية، وفي إطار تعزيز الرقابة، فرض بنك الجزائر ضرورة أن يتم كل تحويل للعملة الصعبة من الجزائر إلى الخارج من حساب بنكي محلي مفتوح داخل البلاد، مع تقديم إشعار سحب لكل عملية تفوق السقف المحدد.
وأشار المصدر إلى أن هناك حالات خاصّة، مثل الطلبة الذين يدرسون في الخارج، المرضى الذين يتلقون العلاج خارج البلاد، والدبلوماسيين، الذين يمكنهم الاستفادة من استثناءات في المعاملات المالية، حيث يتم منحهم تسهيلات تتعلق بمبالغ أعلى من المسموح بها، بشرط تقديم المستندات اللازمة التي تثبت احتياجهم لهذه المبالغ، وتأتي هذه الإجراءات في إطار استراتيجية البنك المركزي لتقوية النظام المالي وضمان تحكم أفضل في تدفق العملة الصعبة خارج الجزائر.
خطوات جريئة
غير بعيد عن ذلك صرّح الخبير الاقتصادي الهواري تيغريسي أن تنظيم سوق العملة الصعبة في الجزائر يعد إحدى الأولويات التي يجب على السلطات معالجتها بشكل عاجل لضمان استقرار الاقتصاد الوطني وحماية الاحتياطي من النقد الأجنبي.
وفي حديثه لـ "الترا جزائر" عن أبرز الحلول، شدّد تيغريسي على ضرورة إنشاء مكاتب صرف معتمدة تعمل وفق آليات واضحة وتحت إشراف الدولة، قائلًا: "إن تنظيم تداول العملة الصعبة في الجزائر يتطلب بشكل أساسي فتح مكاتب صرف معتمدة، تكون مهيئة للعمل وفق معايير شفافة، وبتنظيم وإشراف دقيق من قبل السلطات المالية، هذه المكاتب ستوفر إطارا قانونيا للمواطنين والمستثمرين للحصول على العملة الصعبة بشكل آمن وشرعي، مما يسهم في تعزيز الثقة في النظام المالي، ويحدّ من الممارسات غير القانونية التي تشهدها السوق السوداءّ".
وأضاف تيغريسي أن إنشاء مكاتب الصرف سيحدث نقلة نوعية في التعامل مع العملة الصعبة داخل البلاد، حيث ستتيح هذه المكاتب ضبطا أكبر لحركة الأموال، وهو ما سيساعد السلطات على مراقبة تدفق النقد الأجنبي وتوجيهه نحو القطاعات الاقتصادية الحيوية.
كما أشار تيغريسي إلى أن السوق السوداء للعملة الصعبة تشكّل تحديا اقتصاديا كبيرا، نظرا لهيمنتها على السوق في ظل غياب البدائل الرسمية، مما يؤدي إلى ارتفاع الأسعار غير المنطقي للعملات الأجنبية. وفي هذا السياق، قال:"محاصرة السوق السوداء للعملة الصعبة ضرورة اقتصادية لا مفرّ منها، هذه السوق تستنزف العملة الصعبة من الاقتصاد الرسمي وتوجهها نحو أغراض غير إنتاجية، مما يضعف قدرة الدولة على الاستفادة منها في تمويل مشاريع التنمية، لذلك، يجب إدراج هذه السوق ضمن الاقتصاد الرسمي من خلال توفير حلول بديلة وقانونية، مثل مكاتب الصرف المعتمدة، التي تتيح التعامل بأسعار تنافسية تلبي احتياجات المواطنين والمستثمرين دون اللجوء إلى الطرق غير المشروعة."
وأوضح تيغريسي أن إدراج السوق السوداء في المنظومة الرسمية يحتاج إلى إستراتيجية شاملة تتضمن توفير أسعار صرف جاذبة في المكاتب الرسمية، إلى جانب تسهيلات قانونية وإدارية تُشجّع المتعاملين على الانتقال من السوق الموازية إلى السوق النظامية.
وختم تيغريسي حديثه بالتأكيد على أن تنظيم سوق العملة الصعبة يشكّل خطوة جوهرية نحو إصلاح المنظومة الاقتصادية، قائلًا: "إن فتح مكاتب الصرف وإدماج السوق السوداء في النظام الرسمي ليست مجرد حلول تنظيمية، بل هي أيضًا جزء من استراتيجية أوسع لتحقيق الاستقرار المالي والاقتصادي في الجزائر، هذه الخطوات ستعزز من قدرة البلاد على مواجهة التحديات الاقتصادية، وتقليل الاعتماد على مصادر الدخل التقليدية، خاصة في ظلّ التحولات الاقتصادية العالمية".
هذا وتأتي تصريحات هؤلاء الخبراء في وقت تشهد فيه الجزائر حراكًا اقتصاديًا يستهدف إصلاح القطاعات الحيوية، بما في ذلك تعزيز الشفافية ومكافحة النشاطات غير القانونية التي تؤثر على الاقتصاد الوطني.
الجزائريون ابتكروا ما يشبه "بنوكًا موازية" تسمح لهم بنقل أموالهم إلى الخارج واستقبالها بكل سلاسة
بخصوص قرار تسقيف المبالغ المسموح للمسافرين بإخراجها من البلاد بالعملة الصعبة، فيشار هنا إلى أن الجزائريين ابتكروا ما يشبه "بنوكًا موازية" تسمح لهم بنقل أموالهم إلى الخارج واستقبالها بكل سلاسة دون اللجوء إلى الإجراءات البنكية، ويقوم هذا الأمر على ما يشبه شبكة علاقات في الداخل والخارج، تُمكّنهم من إيداع أموالهم في الجزائر، واستقبالها بالعملة الصعبة في الخارج.