09-ديسمبر-2019

تجيء محاكمات الفساد في سياق سياسي واضح (Getty)

لأول مرة في تاريخ الجزائر، يفتح القضاء ملفات لمحاسبة مسؤولين كانوا في أعلى هرم السلطة ونظام الحكم. محاكمات وإن كانت ذات محتوى جنائي مرتبط بالفساد والشق الاقتصادي ونهب المال العام، إلا أن الكثيرين يصفونها بالمحاكمات "السياسية" بسبب طبيعة المتهمين والظرف الذي تجري فيه هذه المحاكمات، بينما يعتبرها قطاع واسع أنها "عربون سياسي للجزائريين" لحملهم للتوجه إلى صناديق الاقتراع، في الانتخابات الرئاسة في الـ12 من كانون الأول/ديسمبر الجاري، فيما توضع هذه المحاكمات على صعيد آخر، على محمَل الإرادة السياسية للسلطة الحالية في البلاد لمحاربة الفساد والرغبة في إنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأموال التي نهبت في فترة حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة.

خلف الطابع القضائي للمحاكمات والتّهم الموجهة لعدد من المسؤولين في فترة ما قبل الـ22 شباط/ فيفري الماضي، يطرح سؤال بإلحاح: هل هي محاكمات قضائية أم محاكمات سياسية؟

سؤال ومحددات

خلف الطابع القضائي للمحاكمات والتّهم الموجهة لعدد من المسؤولين في فترة ما قبل الـ22 شباط/ فيفري الماضي، وملفات الفساد زمن مرحلة حكم بوتفليقة، يطرح سؤال بإلحاح: هل هي محاكمات قضائية أم محاكمات سياسية؟

اقرأ/ي أيضًا: قضية تركيب السيارات.. رجال أعمال ووزراء بين الاعتراف والتنصّل من المسؤولية

الثابت أن هناك ثلاثة محددات تجعل من وقوف كبار المسؤولين في عهد بوتفليقة أمام محكمة الجنايات بالجزائر، في قضية فساد هي الأولى من نوعها تخص مصانع تركيب السيارات، تحمِل الغطاء السياسي، إذ تعرف هذا المنحى، طبيعة الموقوفين بعيدًا عن حالتهم في القضية ووضعيتهم بين متهم وشاهد وهم على التوالي: أحمد أويحي رئيس الحكومة الذي تقلد عدة مناصب ومنصب رئيس الحكومة لأربع مرات آخرها من 2017 إلى غاية استقالته في 11 مارس 2019، وعبد المالك سلال الذي ترأس أيضًا  الحكومة في الفترة ما بين 2012 إلى غاية 2017، والوزراء السابقون للصناعة يوسف يوسفي ومحجوب بدة، والوزير الفار خارج البلاد عبد السلام بوشوارب، ووزير النقل والأشغال العمومية السابق عبد الغني زعلان، ووزيرة السياحة السابقة نورية يمينة زرهوني.

كما يتابع أربعة من رجال الأعمال من مالكي مصانع السيارات في القضية، كمتهمين رئيسيين، وهم: حسان عرباوي، مالك مصنع "كيا الجزائر" ومحيي الدين طحكوت، مالك مصنع علامة "هيونداي"، وأحمد معزوز، مالك مجمع "معزوز" ومحمد بايري، مالك مجمع "إيفال".

تهم ضد منظومة

وبذلك فإن هذه المحاكمة، لها غطاء سياسي بحت، كونها تعدّ محاكمة لنظام كامل عمر لمدة 20 سنة كاملة، يقول الباحث في العلوم السياسية الأستاذ مولود بلوناس لـ" الترا جزائر"، إذ لم تشهد الجزائر منذ الاستقلال ( 1830-1962) محاكمة من هذا النوع لكبار المسؤولين في أعلى هرم الدولة، كما أنها عملية محاسبة لمرحلة كاملة، اتّسمت حسبه بالفساد والرشوة واختلاط السياسية بالمال، فضلًا عن محاكمة "خيارات لمنظومة سياسية شهدتها الجزائر في فترة حكم الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة".

في مرحلة كاملة، شهدتها الجزائر أي في الفترة ما بين (1999- 2019) تراكمت المسائل الاقتصادية، وبرز حقل المال والأعمال كمحرك كبير للسياسية، يضيف الباحث بلوناس، واتسعت دائرته في العهدة الثالثة والرابعة على التوالي للرئيس بوتفليقة، خصوصًا عند أزمته الصحية وإدارة الحكم من طرف أجهزة تتداخل فيها المصالح، وهو "ما ينسحب على تلك السياسيات ولطريقة الحكم التي انتهت بالبلاد إلى كارثة فساد بخيوط متشعبة وبعشرات القضايا التي يصعب اليوم علينا أن نفككها، إلا بقضاء عادل وشفاف ولديه رغبة حقيقية في محاسبة الفاسدين واسترجاع أموال الشعب" على حدّ تعبيره.

الظرف السياسي الراهن بشكل عام هو المحدد الثاني، الذي يجعل من إثارة مثل هذه القضايا خلال الحملة الانتخابية للرئاسيات محل تساؤل كبير، فضلًا عن انقسام الشارع الجزائري بين مؤيد للانتخابات وبين رافض لها في مثل هذه الفترة التي تتسم بالشدّ السياسي، بحسب المتابعين للشأن العام في الجزائر، إذ تشهد الساحة تحولات كبيرة منذ بدء الاحتجاجات الشعبية ضد تقدم الرئيس بوتفليقة لعهدة خامسة، إلى غاية اليوم، كما يقول الناشط الحقوقي عبد الله سليماني لـ"الترا جزائر".

 يشدد سليماني على أن القضايا في حد ذاتها تعد محاكمات مفصلية في التاريخ السياسي للجزائر، يتخللها حراك متجدد في الشارع وصراع حاد في المواقف والخيارات السياسية بين السلطة والمعارضة وغليان في الأوساط المدنية.

وتتفق هذه الأطروحة، مع ما ذكرته هيئة الدفاع عن المتهمين، وتعبيرها عن مخاوف من المحاكمة في هذا الظرف السياسي، مثلما جاء في تصريحات نقيب المحامين عبد المجيد سليني ومخاوفه، القائل بأن " القضية سياسية والأحكام فيها مسبقة، كما أن الأحكام جاهزة، وسيتم الذهاب إلى الاستئناف. وقال سيليني، إنه يجب نقل المحاكمة لمجلس قضاء الجزائر، لأن الظروف غير ملائمة بمحكمة "سيدي امحمد"، فضلًا عن الظروف غير الملائمة التي جرت فيها المحاكمة يوم الإثنين الماضي، كما أن ضم ملفات معزوز وبايري في المحاكمة غير قانوني بحسبه.

وبذلك يذهب البعض إلى وصف محاكمات رموز الفساد في الجزائر في هذا الظرف بالذات، أنها محاكمات" قلق سياسي يسبق انتخابات متشنجة"، إذ لا يساعد الظرف الحالي بحسب ناشطين حقوقيين على إقامة محاكمة عادلة في شقها القانوني، بينما يتخوف البعض بأن يكون هناك" انتقام سياسي" بقرارات قضائية.

توقيت المحاسبة

بالإضافة إلى الوضع السياسي المتوتر بين مسارات السلطة والمعارضة ومطالب الشارع الجزائري، يبرز محدد ثالث، يتعلق بتوقيت المحاكمة في حدّ ذاته عشية الانتخابات الرئاسية ويطرح رهانين متقابلين، حيث تسعى السلطة لتقديم هذه المحاكمات كمؤشر جدي لتوجهها نحو مكافحة الفساد وتفكيك النظام السابق، واسترجاع المال العام والعقارات وإقناع الناخبين أن الانتخابات المقبلة جزء من هذا الخيار، وتستدعي الدعم الشعبي عبر التوجه إلى صناديق الاقتراع. وفي المقابل يقرأ الحراك وقوى المعارضة في توقيت المحاكمات وتزامنها مع الانتخابات وسيلة تستغل سياسيًا لتزكية الانتخابات ودفع الناخبين إلى التصويت، إذ ترفض المعارضة والحراك الربط بين المسار القضائي والمسار السياسي.

تستدعي هذه المحاكمات الأخيرة إلى أذهان الجزائريين محاكمات قضية "بنك ومجمع الخليفة" التي وسمت بـ"فضيحة القرن" عام 2005

تستدعي هذه المحاكمات الأخيرة إلى أذهان الجزائريين محاكمات قضية "بنك ومجمع الخليفة" التي وسمت بـ"فضيحة القرن" عام 2005، والتي برغم صدور الأحكام فيها والنقاش الذي رافق طابعها الاقتصادي، إلا أنّ الرأي العام ظل مقتنعًا بخلفياتها السياسية، وأبقى على تصنيفها في خانة القضايا السياسية المرتبطة بمنظومة الحكم وسوء إدارة المال والشأن العام، إذ لا تختلف تلك المحاكمة عن المحاكمات الراهنة في سياقها وخلفياتها السياسية المرتبطة أيضًا بسوء تسيير المال العمومي.