20-أكتوبر-2022
الدكتور محمد الأمين دباغين (الصورة: وكالة الأنباء الجزائرية)

الدكتور محمد الأمين دباغين (الصورة: وكالة الأنباء الجزائرية)

عرفت الحركة الوطنية الجزائرية شخصيات ذات مكانة ذاكرتية، تركت بصماتها في تاريخنا الوطني، اقترن نضالها بمختلف المحطات التاريخية، وعايشت أطوار التحولات السياسية والنضالية، خاصة المرحلة الاربعينيات وفترة العمل المسلح عامي 1954-1962.

تمتع محمد الأمين دباغين بحسٍّ أمنيٍ رفيع  وأكسبه العمل السري  ثقافة سياسية وقائية تعتمد على الحذر وتفادي الظهور وحب الزعامة

في هذا السياق، ترصد "الترا جزائر" مسار شخصية محمد الأمين دباغين، الذي وصفه حسين آيث أحمد بـ "المنارة السياسية"، فهو الذي رافع سنة 1947 أمام البرلمان الفرنسي عن لوائح جرائم الاستعمار الفرنسي منذ 1830، وقدّم مداخلة مطولة "أبكَمت" عناد ومكابرة النواب الفرنسين.

يُشار إلى أن الأمين دباغين لم يترك مذكرات ولا حوارات ولا لقاءات إعلامية مُطولة، تكشف مسار الرجل التاريخي بشكل مفصل، فمنذ استقالته من الحكومة المؤقتة سنة 1960، وغداة الاستقلال اختار العودة إلى مهنته الأصلية والمتمثلة في الطب، في المقابل أنه استمر في التواصل مع رفقائه في الكفاح على غرار يوسف بن خدة، رضا مالك، عبد الحميد مهري، حسين لحول، دماغ العتروس، من جانبه كان يمتنع عن المشاركة في الدعوات الرسمية والاحتفالية بحجة "أني أديتُ الواجب نحو الله والوطن".

النشأة

من مواليد 24 كانون الأول/ يناير 1917 بحسين داي، من عائلة تنحدر من الوسط الشبه البرجوازي، تعود تسمية دباغين إلى مهنة "الدباغة التي ورثتها أصوله العائلية.كان والده محمد يشتغل "باش عدل" أي مساعد قاضي، اسم والدته يوبي ڨوسم بنت عبد القادر، وإلى غاية اليوم ما تزال العائلة تحتفظ بـ "دويرة " كبيرة في قلب القصبة وبالضبط في سيدي محمد الشريف.

تلقى تعليمه في مدينة شرشال، مقر عمل والده، انتقل بعدها إلى ثانوية Duveyrier)  (البليدة (ثانوية ابن رشد حاليًا)، تعرف خلال إقامته الداخلية بالثانوية على كل من يوسف بن خدة، سعد دحلب، محمد يزيد، عبان رمضان، علي بومنجل. ويَذكر يوسف بن خدّة أن الفضل في تكوينهم السياسي والوطني يعود إلى الأمين دباغين، بحكم تشبعه بالفكر الوطني، ونشاطه السرّي ضمن حزب الشعب الجزائري.

كان رغبة دباغين التحاق بشعبة الحقوق والمحاماة، لكنه انضم إلى دراسة الطب بجامعة الجزائر، بفضل توجيه من أستاذ الرياضيات. 

باشر نضاله مبكرًا، ففي سنة 1938 عُيَنَ نائب رئيس جمعية الطلبة المسالأمين  لشمال أفريقيا، رفقة فرحات عباس الذي كان رئيسًا، وكمال مصطفيي، فضلًا عن انضمام سط مناضلي حزب الشعب الجزائري.

النشاط السياسي

كان فشل مشروع المؤتمر الإسلامي سنة 1936، بداية صعود الخطاب الاستقلالي الذي كان على رأسه مصالي الحاج، في سنة 1937 تم حلّ نجم شمال أفريقيا من طرف الإدارة الفرنسية، لييتم الإعلان عن ميلاد حزب الشعب الجزائري في آذار/مارس من نفس السنة، كان الأمين دباغين في العشرينات من العمر، تبنى دباغين الخطاب الوطني الاستقلالي، وأقر أطروحات مصالي أو ما بات يمسي بالتيار الاستقلالي.

في السياق، شهدت التحوّلات السياسية والدولية نتيجة نهاية الحرب العالمية الأولى، وتبعات الأزمة الاقتصادية العالمية سنة 1929، وانعكاساتها الداخلية، بروز حزب الشعب الجزائري بالجزائر كقوّة سياسية، علاوة على ظهور نخبة وطنية متعلمة تتمتع بالتكوين والثقافة الفرنسية، ومشبعة بالهوية الوطنية والأصيلة، وعلى ضوء تراكم تلك الأحداث، سطع الأمين دباغين إلى الواجهة السياسية وهو في السن 22 سنة.

شكل رصيده النضالي وذكائه السياسي ومستواه التعليمي، تَبَوأ مناصب قيادية رفقة فيلالي عبد الله، وأحمد بودة وأحمد مزرنة، وهم من رعيل الأول لنجم شمال أفريقيا.

اعتقال مصالي الحاج

بعد اندلاع الحرب العالمية الثانية، شدّدت السلطات الاستعمارية الحصار على نشاط الحزب وتم حل حزب الشعب، واعتقال مصالي الحاج وسجنه، خلال الفترة 1940 برز دور الأمين دباغين على رأس الحزب، حيث كثف من تحركاته ونشاطاته، وساهم في إعادة هيكلة الحزب وانتشاره، وتوسيع قاعدته النضالية، وتنظيم لقاءات دورية مع القيادة والقاعدة، وتحسيس المقاربة الاستقلالية وفشل المشروع الاندماجي.

 كان نشاط الأمين دباغين وسط انهيار وإحباط معنويات المناضلين، خصوصًا بعد حملة اعتقالات واسعة مست إطار الحزب، هذا الدور الهام جعل بعض المؤرّخين يَقُرُون أنه بفضل جهود الأمين دباغين تمكن حزب الشعب الجزائري من الصمود والبقاء، كان سعيه إلى رفع همة وعزيمة المناضلين وسط الشعور بالهزيمة والانكسار، واستطاع إبقاء التواصل بين النشطاء.

التجديد

في السياق متصل، كان لصعود الأمين دباغين نقطة تحول في التركيبة العضوية للحزب عمومًا والحركة الوطنية خصوصًا، فمن خلال تعيين الأمين دباغين على رأس حزب الشعب الجزائري انظمت طبقة جديدة من النشطاء ذوي التكوين الجامعي والطبقة المثقفة والبرجوازية الوطنية للمشروع الوطني الاستقلالي. على غرار المحامي الحاج السعيد الشريف، والمترجم الدماغ العتروس، المحامي معيزة، إضافة إلى فئات من الطلبة كيوسف بن خدة، حسين آيث أحمد، عمر أوصديق وغيرهم.

العمل السري

كان الأمين دباغين يتمتّع بحس أمني رفيع، ما أهل نشاطه في المحافظة على خلايا الحزب حتى لا تثير انتباه مصالح الاستعلامات الفرنسية، كان دباغين يلقب بـ"دكتور موتو"(Dr Moto)، فالعمل السري والتكوين الشخصي، جعل دباغين يكتسب ثقافة سياسية وقائية، تعتمد على الحيطة والحذر، وتفادي الظهور وحب الزعامة، والاختيار المُحكم للمناضلين والنشطاء.

خصومات داخل الحزب  

وفي ظلّ العمل السري والإقامة الجبرية وغياب مصالي الحاج، طفت خصومات وخلافات داخل حزب الشعب الجزائري، بين جماعة تُلقب بـ "صاحب الدوزيام" مقر نشاطها مدينة القصبة، والمتكونة من كوادر نجم شمال أفريقيا سابقًا، على غرار الحاج شرشالي، طالب أحمد، وحسين المقري وكانت زوجة مصالي الحاج السيدة تتمتع بالنفوذ على الجماعة.

في المقابل كان هناك جماعة "بلكور" مركز نشاطها، تحت قيادة الأمين دباغين رفقة الشاب محمد بلوزداد، حسين لحول ورفقة الجيل الجديد من المناضلين.

في السياق، وبحسب مؤرّخين يُعود ممكن التضارب إلى تصادم بين جيل نجم شمال افريقيا وتركيبة قاعدته النضالية والقيادية، وبين جيل جديد وتشكيلة جديدة من أوساط قيادية متعلمة وراديكالية المواقف، ومثقفة من أصول التركية والشبه البورجوازية، وكان الأمين دباغين القادم من الوسط الاجتماعي الحضري يشكّل المرجعية والنموذج النضالي.

 لقد تميزت رؤية ومقاربة الأمين دباغين أن النضال لابد من أن يعتمد على توسيع القاعدة الشعبية للكفاح، وليس النظرة النخبوية أو الفئوية أو النقابية، ولابد من تأطير الشباب المتحمس، فالبعد الوطني للكفاح لابد من أن يشمل كافة الفئات المجتمعية، وليس طرف على حساب طرف، هذا الرؤية جعلت دباغين محل وصف بالمتطرف والشعبوي من طرف أتباع مصالي الحاج.

الخطاب الاستقلالي  

كانت استراتيجية الأمين دباغين جمع كافة الأطياف السياسية الجزائرية من أجل الانخراط الأوسع في النضال من أجل القضية الوطنية، ورغم تباعد وتباين العقيدة السياسية بين دباغين وفرحات عباس، سعى دباغين إلى التواصل مع فرحات عباس وجمعية العلماء من أجل وضع إطار مشترك وموحد ووضع الخلافات جانبًا.

تعرف الأمين  دباغين على فرحات عباس خلال العمل المشترك في التنظيم الطلابي، وبمدينة سطيف مقر إقامة فرحات عباس، كان الطبيب دباغين يقوم بالمداولات الطبية بعيادة دكتور أحمد فرنسيس، هذا القرب الجغرافي ساهم في التقارب بين الطرفين، ورغم تباين مدرستهما السياسية، لم يكن مانعًا من السعي إلى بلورة مطالب سياسية مشتركة وموحدة، وأثمر اللقاءات إلى وضع أرضية وثيقة البيان الجزائري في شباط/فيفري سنة 1943، مطالبة بتطبيق مبدأ تقرير المصير وحمل إدانة الاستعمار على مختلف أشكاله والإفراج عن المعتقلين كما تضمنت الأرضية مطالب إصلاحية كالمشاركة السياسية وحرّية الإعلام  وتطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة والتعليم المجاني.

توغل وسط حركة أحباب البيان والحرية

في 14 آذار/مارس 1944 تأسست حركة أحباب البيان والحرية، وعلى مدار يومين من الثاني آذار/مارس إلى غاية الرابع من عام 1945 ترأس المؤتمر الدكتور سعدان، وقد أشرف على تأسيس الحركة فرحات عباس والشيخ البشير الإبراهيمي بالتعاون مع مصالي الحاج الذي كان تحت الإقامة الجبرية بقصر البخاري.

شكّلت الحركة الجديدة مناسبة وفرصة لمناضلي وقيادي حزب الشعب الجزائري المنحل من النشاط بشكل شرعي وقانوني، وتمكن الأمين دباغين من التوغّل وسط الحركة، وزرع خلايا حزب الشعب الجزائري، وشدّد على دس المطالب الوطنية، ورفع الشعارات الاستقلالية وتعزيز مفردات الأمة الجزائرية والجمهورية الجزائرية حتى ولو تضمنت عبارة مثل اتحادية مرتبطة بفرنسا، وقد كان ذلك يسبب إحراجًا أحيانًا للتيار الاندماجي والإصلاحي.

المقاومة مستمرة

بعد مجازر أحداث أيار/ماي 1945 تم حل حركة الأحباب البيان والحرية في 14 أيار/ماي 1945، وأعتقل كل من فرحات عباس والدكتور سعدان وباقي القيادات الوطنية، بعد حل الحركة لم يستسلم الأمين دباغين للوضع القائم، بل حاول إعادة جمع التيارات والشخصيات الوطنية، غير أن محاولاته بائت بالفشل والرفض من باقي التشكيلات الوطنية، الأمر الذي دفعه إلى السفر إلى المغرب رفقة عبد الله فيلالي وارسال وفد إلى تونس والاتصال بالحبيب بورڨيبة من أجل تأسيس تكتل مغاربي يكون سندًا داخليًا في مواجهة الاحتلال الفرنسي.

أزمة الزعامة

بعد الإفراج عن مصالي الحاج في 13 تشرين الأول/أكتوبر 1946، وقف مصالي الحاج على خلافات وتحولات عميقة، هذا الشرخ كان بين قدماء نجم شمال أفريقيا من مؤيدي المشاركة الانتخابية، وقيادات شابة ثورية على رأسها الأمين دباغين، لم تنشأ وسط المصانع بفرنسا، ولم تتربى في أحضان الأممية الشيوعية و لا النقابات الاشتراكية، وبدل من أن يستوعب مصالي الوضع الجديد، تموقع مع قدماء المناضلين الذين أبدو له الولاء والطاعة العمياء والزعامة.

وخلال اجتماع مع قيادات الحزب في ضواحي بوزريعة، في بيت المناضل عماري المهدي، تم دراسة مشروع المشاركة في الانتخابات التشريعية، والعودة إلى الشرعية السياسية والوضع القانوني، حينها برزت وجهات نظر متباعدة ومتباينة، غير أن القرار المشاركة تم الموافقة عليه.

لم يبد الأمين دباغين موقفًا صريحًا من المشاركة أو من عدمها، لكن مؤرخين يرون أن التزام الحياد من طرف الأمين  دباغين كان تعبيرًا عن الانضباط الحزبي، وشارك الأمين  دباغين في الانتخابات سنة 1947، وتحصل على مقعد نائب في مقاطعة قسنطينة رفقة كل من جمال الدين دردور ومسعود بوقادوم وأحمد خيضر، وأحمد مزرانة.

في 15 شباط/فيفري 1947 انعقد اجتماع ثاني ضم قيادات الحزب، وأجري المؤتمر في ضاحيتي بوزريعة وبلكور لأسباب أمنية، ثلاثة أيام شهدت نقاشات حادة وسجالات واتهامات متبادلة بين المصاليين ومؤيدي الخيار الثوري المسلح، واتفق الطرفان على تأسيس الواجهة السياسية الرسمية والمتمثلة في حركة انتصار الحريات الديمقراطية، وتأسيس المنظمة الخاصة التي لعب دباغين دروًا كبيرًا في تنظيمها المالي واللوجستيكي.

قضى محمد الأمين دباغين طوال سنوات حياته السياسية والاجتماعية بعيدًا عن الشهرة والمناصب

يوصف مصالي الحاج على بـ "الأب الروحي للوطنية"، غير أن التاريخ فرض على الأمين دباغين الرجل الثاني في الحركة الوطنية النسيان والتهميش والصمت، لأنه كان رجلًا دون عشيرة ولا قبيلة ولا أيديولوجيا يستند إليها أو عليها، وبعد الاستقلال فضّل العمل في عيادته الطبية بمدينة العلمةـ إلى غاية وفاته في 21 تشرين الأول/يناير 2003، لكنه قضى طوال سنوات حياته السياسية والاجتماعية بعيدًا عن الشهرة والمناصب مشهودًا له بالرفعة والنزاهة والمواقف وبعد النظر.