22-يونيو-2019

الدكتور محمد بن بريكة عُرف بتكريس المرجعية الدينية الجزائرية (الترا جزائر/ فيسبوك)

بقيت الجزائر تعتمد في مرجعيتها الفقهيّة على المذهب المالكيّ، منذ القرن السّابع للميلاد، وفي مرجعيتها العقديّة على العقيدة الأشعريّة، وفي مرجعيتها الرّوحيّة على التصوّف الذي تحفل به العديد من الطّرق الصّوفيّة، حيث توجد المقرّات العالميّة لبعضها في الجزائر، مثل الطّريقة التّجانيّة والمذهب الإباضيّ، هذا الأخير، تتبعه تاريخيًّا طائفة من المواطنين المقيمين في ولاية غرداية، 600 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة.

دخول الفكر السّلفيّ الوهابيّ القادم من الفضاء السّعوديّ، شوّش على المرجعية الدينية الجزائرية

غير أنّ دخول الفكر السّلفيّ الوهابيّ القادم من الفضاء السّعوديّ، مع بداية ثمانينات القرن العشرين، راح يشوّش على هذه المرجعيّة، في عقر دارها، وقد تعدّى مقام استبعادها من باب الاختلاف، خاصّة في باب التصوّف، إلى مقام استبعادها من باب التّكفير، بكلّ ما يترتّب عن ذلك من انزلاقات تهدّد الأمن الاجتماعيّ، مثلما فعل ممثل الفكر المدخلّي السّعوديّ في الجزائر الشّيخ محمّد علي فركوس، العام الماضي، حيث أخرج في فتوًى له المتصوّفة من الملّة المحمّديّة.

اقرأ/ي أيضًا: الطرق الصوفية.. محل استغلال سياسي جزائريًا

تصدّى نخبة من العلماء والباحثين ورجال الدّين الجزائريّين لهذا الاختراق، كان في مقدّمتهم الخبير الدّولي في علوم التصوّف محمّد بن بريكة (1958)، الذّي عُدَّ أصغرَ أستاذ في الجامعة الجزائريّة، إذ لم يتجاوز سنته الثّانية والعشرين، حين التحق بها عام 1979 متخصِّصًا في علوم التصوّف والحضارة الإسلاميّة. وقد اختير رجل السّنة من طرف جامعة كولومبيا الأمريكيّة عام 2017، معتذرًا عن التّدريس فيها، بحجّة أنّ معركته في الجزائر لم تكتمل.

لم تكن معركة صاحب "موسوعة التصوّف الإسلاميّ" إلا معرفيّة وفكريّة؛ حيث تولّى إدارة الدّراسات العليا، ثمّ رئاسة المجلس العلميّ، وعضويّة اللّجنة الوطنيّة لإصلاح برامج التّعليم العالي، ونيابة رئاسة اللّجنة الوطنيّة للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، إلى جانب تأليف الكتب ونشر المقالات وإلقاء الدّروس والمحاضرات في المنابر المختلفة.

كان صاحب "جمهرة الأعمال الصّوفيّة" يرى أنّ حماية المرجعيّة الدّينيّة الجزائريّة داخلةً في صميم الأمن القوميّ الوطنيّ. ذلك أنّ الاختراق الفقهيّ، بحسبه، يمهّد للاختراق السّياسيّ والاقتصاديّ للدّولة التّي انبثق منها الفكر الدّينيّ المختلف عن المرجعيّة الوطنيّة، إذ يمكن أن تثير بلبلة اجتماعيّة وعرقيّة وسياسيّة في الشّارع الجزائريّ.

أعطى بن بريكة مثالًا على ذلك، في أكثر من مداخلة له، ما حصل بين أتباع المذهب المالكيّ والمذهب الإباضيّ في منطقة غرداية على مداخل الصّحراء الجزائريّة، عام 2014، والذّين عاشوا في انسجام ووئام منذ قرون، إلى أن كفّر بعض أتباع السّلفيّة الوهّابيّة السّعوديّة المذهب الإباضيّ، بحجّة أنّه مذهب خارجيّ، فوقعت أحداث عنف راح ضحيّتها العشرات، بين قتيل وجريح.

من هنا، لطالما نصح صاحب كتاب "التصوّف الإسلاميّ من الرّمز إلى العرفان" السّلطات الحاكمة، بتكريس ملامح المرجعيّة الدّينيّة الوطنيّة، من خلال جملة من الإجراءات، منها الاستثمار في ما أسماها "السّياحة الرّوحيّة"، حيث يتبع الملايين في العالم طرقًا صوفيّة تقع مشيختها العامّة في الجزائر.

وتساءل في أكثر من حوار ومداخلة له عن السرّ، الذّي جعل بلدة عين ماضي، 400 كيلومتر إلى الجنوب من الجزائر العاصمة، لا تتوفّر على فندق واحد، رغم أنّها تحتضن المقرّ العام للطّريقة التّجانيّة، التّي يتبعها أكثر من 200 مليون مسلم في القارّات الخمس.

ترك رحيل الأكاديميّ والخبير الدّوليّ في علوم التّصوّف محمّد بن بريكة، الخميس، أسفًا في الأوساط الجامعيّة والثّقافيّة والإعلاميّة، التّي سارعت وجوه كثيرة منها إلى التّعبير عن احترامها للفقيد وجهوده والفراغ، الذّي سيتركه في باب موصوف بالأهمّيّة والالتصاق تاريخيًّا بالشّخصيّة الجزائريّة.

كتب أستاذ الفلسفة بوزيد بومدين، في تدوينة فيسبوكيّة له، "شاء القدر أن يرحل عنّا الشّيخ والفيلسوف الرّوحاني محمّد بن بريكة، في زمن تحتاجه فيه الجزائر والأمّة الإسلاميّة، أيّامًا بعد رحيل فلاسفة عرب، مثل  طيّب تيزيني وعزّت قرني وإمام عبد الفتّاح".

واعتبر بوزيد أنّ وفاة بن بريكة حزنًا وفقدانًا لباحث يتقن العبارة ويعبّر عن بلاغة عن المعنى، "فقدان لباحث غاص في مواقف النفري والأمير عبد القادر ووطنيّ بامتياز، عرفته الزّوايا ومشايخ الطّرق، وارتبط بالزّاوية البلقايدية مشرفًا على دروسها المحمّديّة السّنوية".

كان محمد بن بريكة يواجه المختلفين معه بمنهجيّة مزجت بين التّقليديّ والأكاديميّ العصري

من جهته، كتب الإعلامي والباحث في علم الاجتماع الثّقافي محمّد بن زيّان أنّ محمّد بن بريكة استمرّ مرافعًا من أجل حماية ما يراه هو وآخرون مرجعية وطنيّة بالتحديد الشّقّ الصّوفيّ منها، "امتلك المرحوم خاصيّة الحفظ كإرث من المدرسة التّقليديّة، وامتلك قدرة الإسهاب بفصاحة. كان يستعرض محفوظاته ويواجه المختلفين معه بحجج وبمنهجيّة مزجت بين التّقليديّ والأكاديميّ العصري".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الطائفة الصوفية الكركرية.. تحريك المياه الراكدة في الجزائر

هل تحتاج الجزائر حقًا للمزيد من المساجد؟