28-سبتمبر-2022
محيي الدين بشطارزي (الصورة: رواق)

محيي الدين بشطارزي (الصورة: رواق)

يحمل المسرح الوطني الجزائري اسم محيي الدين بشطارزي، الأب الروحي ومؤسس المسرح الجزائري إبان الفترة الاستعمارية في عشرينات القرن الماضي، رفقة كل من رشيد القسنطيني وسلالي سيد علي المدعو علالو، وهو جيل أسس من خلال أعماله لمرجعية وهوية الحركة المسرحية الجزائرية.

أشرف الموسيقار إدمون يافيل على انتقال محيي الدين بشطارزي من المديح الديني إلى آداء الطابع الأندلسي

خلال الفترة الكولونيالية كانت العروض المسرحية تقدم في أوبرا الجزائر التي تأسست سنة 1861 من طرف فرق مسرحية أجنبية فرنسية وإسبانيا وإيطاليا، ولم يكن الجمهور الجزائري مهتمًا بتلك العروض والفن المسرحي نتيجة البؤس والحرمان والتهميش وطمس معالم الهوية المحلية.

وعلى ضوء تطورات وانعكاسات الحرب العالمية الأولى 1914-1918، ونضج الحركة الوطنية، بدأت معالم المسرح الجزائري تنمو ببطئ، وتساهم في زرع الوطنية، وإضافة نوعية للصحوة الوعي الوطني صحبة العمل الإصلاحي والجمعوي والتثقيفي، بادرت به نخبة وطنية.

تأبي الذاكرة الثقافية والمسرح الجزائري إلا أن يخّلد واحدًا من أعمدة الحركة المسرحية الجزائرية، وهو الراحل محيي الدين بشطارزي، وفي هذا المقال المحطات الأولى  لحياة محيي الدين بشطارزي الفنية، ونقف عند أهم تواريخ ميلاد المسرح الجزائري.

بدايات محيي الدين بشطارزي   

محي الدين بشطارزي من مواليد 5 كانون الأول/ديسمبر 1897 بالقصبة، تتلمذ في الجامع الجديد الواقع وسط الساحة الشهداء حاليًا، في 1915 عند بلوغه السن 18 سنة، تم تعيننه قارئًا للقرآن برتبة "حزّاب"، والحَزاب من الحافظين للقرآن كاملًا برواية ورش ويشترط أن يمتلك طبقة صوتية جهورية تسمح له من تلاوة الحزب الراتب، وحلقات تجذب المئات من محبي القرآن الكريم.

بفضل إعجاب المفتي العام آمذاك حسن بوقندورة بأدائه الترتيلي وقوة نغمة صوته الجهوري وهي في سن 18 عام، انضم إلى فرقة المديح  والإنشاد الديني الملقبة بـ"القصادين" نسبة إلى القصائد الدينية.

أشرف على تكوينه وتلقينه فن القصائد الدينية والمقامات كل من محمد بن قطبان والشيخ بن شاوش ومحمد لكحل، وفي ولما بلغ واحدًا وعشرين سنة ارتقى إلى رتبة مقام "باش حزاب" نتيجة تمكنه من الآداء ومهاراته الصوتية.

أشرف محيي الدين بشطارزي رفقة الفرقة القصادين على إحياء حفلات دينية وإنشاد وابتهالات، وكانت مدينة قسنطينة مدرسة ومركزًا لجمعيات المديح والإنشاد الديني، المتمثلة في المدرسة العصرية تحت إشراف مصطفى حفيظ، ومصطفى بشطارزي، وخلال مشاركة محيي الدين بشطارزي في إحدى الأمسيات الدينية بالعاصمة، تلقى تشجيعًا وثناءً من طرف العلامة عبد الحميد بن باديس، نظير أدائه المتميز.

المدرسة الموسيقية العربية-الأندلسية 

لقد أثار الآداء الصوتي لمحيي الدين بشطارزي فضول بعض الموسيقيين والفنانين، سواءً من  فنانين من الأصول اليهودية أو بعض الأوروبيين على غرار إدمون يافيل المختص في فن موسيقى الصَنعَة، إضافة إلى مجموعة من الموسيقيين مثل لهو سرور، وموزينو والفنان الشهير سَان سيان.

كان هؤلاء الموسيقيون والفنانون يتسللون إلى المساجد والمقاهي الجزائرية قصد استراق السمع إلى الأصوات الجزائرية الشابة على غرار محيي الدين بشطارزي وسيد علي سلالي في المدائح الدينية، والشيخ السفنجي الذي تتلمذ على يد الشيخ منامش والمعلم بن فراشو وهم من أعمدة الاغنية الأندلسية.

الموسيقار إدمون يافيل هو من أشرف على انتقال محيي الدين بشطارزي من المديح الديني إلى آداء الطابع الغنائي العربي والأندلسي والقرطبي، المُترف بالتراث الموسيقي التقليدي والمخزون الثقافي والغنائي، وانظم خلالها إلى الجمعية الموسيقية والغنائية "المطربية".

تدرب بشطارزي علي يد يافيل وموزينو وسرور وسان سيان على مختلف الطبوع الموسيقية الشعبية والأندلسية على غرار استخبار مزموز، واستخبار زيدان، واستخبار موال، واستخبار صيكة وغيرها من الطبوع، أما في مجال الميزان أو "الميازين" فقد تعلم وتحكم بشطارزي في مختلف الأنواع كميزان قصيد وميزان درج وانصراف وميزان بروالي وميزان باشراف.

وقد استطاع محيي الدين بشطارزي من إثارة دهشة واعجاب أساتذته في الموسيقى، نتيجة قدرته على التحكم الرائع في طابعي الصيكة والمزموز، وهو الطابع الذي سمح لمحيي الدين بشطارزي من الارتجال وتفجير طاقاته الصوتية والمقامات.

باشر محيي الدين بشطارزي بإحياء حفلات غنائية  في الطابع الاندلسي والطرب القرطبي،وكانت المناسبة فرصة من أجل المطالبة بحقوقه الفنية والثقافية والدفاع عن مستحقاته المادية رفقة زملائه في الغناء كالفنان بوشاشية ومسفاقجي وعتامة وغيرهم.

الفن والمقاومة

ولوج عالم الموسيقى والغناء لم يكن يسيرًا وسهلًا على خيارات محيي الدين بشطارزي الفنية، إذ تلقى معارضة واستنكار ًامن بعض أئمة المساجد والمؤذنين من أبناء الحي الذي نشأ رفقتهم، بل ومن العائلة العريقة أيضًا، غير أن محيي الدين بشطارزي كانت له رؤية مختلفة تمامًا، إذ قَدّرَ أن آداء الفن الموسيقي أولًا لا يتعارض مع تعاليم الدين، علاوة على ذلك شكل الفن في نظره مناسبة لتحقيق الوجود الذاتي والوطني، ودليلًا على إمكانية تفوق الشخصية الجزائرية وسط التهجين الاستعماري. بالمختصر كان بشطارزي يرى في الفن قالبًا من قوالب المقاومة السليمة.

بشطارزي والحياة العامة

رغم النجاحات الفنية لم ينقطع بشطارزي عن مزوالة مهنة العائلة، المتمثلة في تجارة البقالة، المحل الواقع في الـ 15 ثم 24 شارع روندوا سابقًا المعروف بحي علي عمار (لابوانت حاليًا)، حيث كان يشعر أن مزاولة التجارة هي الارتباط العاطفي مع أهالي القصبة والمحافظة على الإرث الأسري والعائلي والملقب "الحانوت الفنارجي" نسبة إلى الفنار أو المصباح الضوئي،  وتعود التسمية إلى أن عائلة بشطارزي خلال سنة 1886 وعلى طول خمسين سنة كانت تمول إدارة الجزائر العاصمة بالزيت الذي يستخدم في إضاءة المدينة. 

الفوج الأول للمسرح الجزائري

تعرف بشطارزي على سيد علي سلالي المدعو علالو في الجمعية الغنائية "المطربية"، كما كان يشتغل في فرقة يافيل الموسيقية، وخلال نهاية مهنته كعامل في إحدى الصيدليات (قبل أن ينتقل إلى شركة تراموي الجزائر)، ورفقة حسان كتاب، وموسى خداوي، وشكري منصوري، وعزيز لكحل وعلال لفرفوالي، وسي مح ومنصالي اتخذوا من قاعة السينما (Trianon) بباب الواد مكانًا لعرض بعض اسكتشات فكاهية لمدة لا تتعدى 25 دقيقة.

في البداية، كانت العروض التي يقدمها بشطارزي ورفاقه عملًا ارتجاليًا لا يرقى إلى مسرح الهواة، لكنها شكلت بداية التواصل مع الجزائريين والتحدث إليهم عبر الفكاهة باللهجة العامية، عبر استلهام شخصية من التراث الشعبي على غرار جحا والحشايشي، لينتقل بعدها إلى الفضاء العام بمناسبة الأعياد الدينية كعاشوراء أو المولود النبوي الشريف وتناول مواضيع عن المشروبات الكحولية والآفات الاجتماعية.

في سنة 1920 شاركت الفرقة رفقة فرقة مسرحية تونسية حلت بالجزائر، وفي 1921 فسحة من الأمل أخرى تحط بالجزائر بمناسبة جولة فنية قادها الفنان المصري-اللبناني جورج أبيض، الذي  قدم أهم عروض مسرحياته كـ"مجنون ليلى" و"صلاح الدين ومملكة أورشليم"، و"شهامة العرب" و"أدويب الملك"، وفي سنة 1922 زارت الفرقة المصرية "عز الدين الجزائر" حيث أدت عملًا مسرحيًا دراماتيكيًا.

لكن تلك العروض لم تلقَ إقبالًا من الجمهور الجزائري نظرًا إلى المرجعية الثقافية السائدة آنذاك واللغة المستعملة والثيمات المتناولة، وخلال سنة 1922 وقع بين يدي الفوج المسرحي الجزائري نصٌ لكاتب مجهول، مُعَنون بـ "في سبيل الوطن"، وبعد ثلاثة أشهر من التمرينات والتدريبات تم عرض المسرحية في 22 كانون الأول/ديسمبر 1922 بقاعة المسرح (kurssal)، واختتم العرض بآداء موسيقي وغنائي نشطته فرقة يافيل بقيادة محيي الدين بشطارزي.

وفي 18 حزيران/جوان 1923 تنقلت الفرقة إلى مدينة البليدة، وتم عرض مسرحية بعنوان "فتح الاندلس"، التي لقيت ترحيبًا مقبولًا، كما كثف بشطارزي من زياراته إلى المدن الكبرى والداخلية رغم ضيق الفضاءات والمساحات بفعل الإدارة الاستعمارية.

بشطارزي يستفز

في السياق، أقدم محيي الدين بشطارزي على ترجمة النشيد الفرنسي "لامارسييز"، وأداء النشيد الفرنسي باللغة العربية خلال بعض العروض المسرحية والغنائية، وكانت هناك ردود فعل متباينة، بين الطرف الأوروبي الذي اعتبر بشطارزي جزءًا من الاندماجيين، وفئة من الجزائريين التي استنكرت إقدام بشطارزي على أداء النشيد الفرنسي باللغة العربية والعامية معتبرين ذاك خيانة وعمالة.

في المقابل، وفي مذكراته، يقدم بشطارزي تعليلًا عن ذلك الخيار، وفق السياق الزمني والسياسي خلال سنوات 1923، إذ كان مشروع الاندماج من بين الخيارات الأكثر إجماعًا وسط النخبة السياسية والدينية والثقافية، قبل أن يتبين أن المشروع الإندماجي كان وهمًا.

أما الدافع الثاني الذي شجع بشطارزي على ترجمة وأداء النشيد الفرنسي، هي بعض المقاطع الواردة في النشيد، والتي تدين أولًا الاستعمار والمعمرين والمستوطنين، كونها أغنية يقول بشطارزي تتضمن عبارات ومفاهيم عن الحرّية والعدالة والتضامن وتدعوا إلى الحرب وحمل السلاح في وجه العبودية والاستبداد.

لقد كان أداء الأغنية حيلة ومطية تعمدها بشطارزي لزرع أفكارٍ عن المقاومة، بث معاني الحرية والعدالة والمواطنة، وليس ولاءً لفرنسا الاستعمارية.

لقد قدم بشطارزي للمسرح الجزائري في المهد الكثير من العطاء، كان ممثلًا وكاتبًا ومخرجًا، وكان وراء إدراج العنصر النسوي في ثلاثينيات القرن الماضي إلى الركح على غرار كلثوم والمطربة فضيلة دزيرية، وهو من اكتشف عمالقة الفن الشعبي الذي مرو أولًا بالمسرح كمصطفى إسكندراني والهاشمي ڨروابي.  

المسرح الجزائري كان فضاءً للمقاومة ومعالجة المشاكل الاجتماعية وبث الأفكار التحررية

على العموم كان المسرح الجزائري فضاءً ارتآه مؤسسوه  على معالجة المشاكل الاجتماعية، ويهدف إلى بث روح الوطنية في نفوس الجزائريين، وقد تلاقى النشطاء في ميدان الفن والمسرح الكثير من الصعاب والعقبات وسط الذهنيات الرجعية التي شجعتها فرنسا، وكان العمل الفني يعرف مراحل ازدهار وانتكاسات نتيجة المضايقات الاستعمارية، لكن محيي الدين بشطارزي ورفقاؤه استمروا في العطاء عبر مراحل نضالية ومحطات طويلة.