26-أكتوبر-2019

تساهم الضغوط الاجتماعية في ارتفاع عدد حالات الاضطراب النفسي (الصورة: الشروق أولاين)

لم يتوقّع أحدٌ من الوافدين على المكتبة الوطنية، أن ذلك الرّجل الذي يحمل معه سلّة محمّلة بالأوراق والملفّات وبعض الأقلام، هو ذلك الأستاذ الذي تعلّم على يديه عشرات التلاميذ في مسقط رأسه بولاية ميلة شرقي الجزائر. تلاميذٌ درّسهم مادتي الرياضيات والفيزياء وأحيانًا اللغة الفرنسية التي يُتقنها جيّدًا، ليس تعليمًا نظاميًا، بل  في إطار ساعات الدّعم المجاني. كثيرون يتذكّرونه لكنّه لا يتذكّر أحدًا.

عبد النور بن دالي شاهد بأمّ عينه مذبحة راح ضحيّتها أعزّ أصدقائه بنواحي الأخضرية بولاية البويرة

هائمًا بين أزقّة المدن ومكتباتها، يرتدي عبد النّور بن دالي ملابس بالية، يتكلّم بعبارات غير مفهومة، ويردّد حِكمًا شعبية أغلبها يعكس حالته النفسية، مثل "الدنيا مع الواقف"، و"اللي قرا يخلّي واللي ما قراش ما يلوم غير روحوا"، يُحدّث نفسه غالبًا ولا يُكلّم الناس إلا قليلًا.

اقرأ/ي أيضًا: ما هو الاضطراب الوجداني ثنائي القطب؟

عبد النور بن دالي هو أصيل مدينة ميلة العتيقة، من مواليد 1963، ومن أوائل المعلّمين في مدارسها، كما يقول صديق طفولته الدكتور عبد السلام بوعروج في حديث إلى "الترا جزائر"، جمعتهما المرحلة في كثير من المحطّات على المستوى الشخصي والمهني، قبل أن يختار كلّ واحد منهما طريقه.

ضحايا العشرية السوداء

لا يحلو لعبد النور المقام إلّا وهو يُرافق كتبه، سواءً في قاعات المطالعة أو محلّات بيع الكتب، حنينه للكتابة وحلّ المسائل الرياضية يجعله يخربش يوميًا على الجدران، يقول عنه من يعرفه إنّه "عملة نادرة ضاعت في الوطن الذي اختار العشرات من كوادره، حمل حقائبهم ومغادرته نحو وجهات أخرى، ويوجد من بين أصدقائه من هم اليوم في كبريات الجامعات والمؤسّسات في كندا وفرنسا وأمريكا، في فضاءات تحترم العلم وتقدّس العمل"، يضيف بوعرّوج.

يبدو أن طفولته الصعبة وظروفه المعيشية القاسية، كان لها أثر كبير على تحوّل مجرى حياته، هنا يقول عبد السلام اسطمبولي، صديق طفولته عنه: "لقد كان الأستاذ عبد النور نابغة في مدرسته، تركته والدته يتيمًا وعمره ستّ سنوات، ربّته عمته، ولم تنصفه سنواتُ البناء والتشييد خلال مرحلة الاستقلال، ليجد نفسه بين عدّة مؤسّسات تربوية في ولايات قسنطينة وجيجل ثم سكيكدة والعاصمة، غير أنه فقد الحياة مرّتين؛ مرّةً حين غادر رفقاؤه البلاد بسبب الفترة الأمنية، بسبب مخاوف الاغتيالات والجرائم، ومرّة أخرى، حين شاهد بأمّ عينه مذبحة راح ضحيّتها أعزّ أصدقائه بنواحي الأخضرية بولاية البويرة شرقي البلاد، ذلك ما جعله يقرّر ترك كل شيء، الثانوية، ثم التلاميذ الذين كان يعلّمهم أيّام الجمعة طوال السنة، ثم ترك الحياة الاجتماعية. لقد فقد أعزّ أصدقائه في حاجز إرهابي مزيفّ".

لا يُمكن أن نصِف حالة عبد النور، إن كانت ناتجة عن صدمة أم من تراكم عدّة صدمات، يقول طبيبه الذي عالجه لسنوات: "رغم أنّه زار عدّة أطباء مختصّين في الأمراض النفسية والعقلية، فقد نفسه اليوم بين قاعات المطالعة ورفوف المكتبات، يحدّث الكتب ويستنشقُ غبارها، لا مكان ينزوي فيه سوى المكتبات".

ثمن التفوّق

كثيرة هي الحالات المشابهة لحالة عبد النور، أشخاصٌ فقدوا وعيهم بما يدور حولهم مثلما هو حال الشابّة خديجة، ذات الخامسة والثلاثين عامًا، إذ كانت من بين نوابغ الثانوية ثم الجامعة، بولاية سطيف شرقي الجزائر، غير أن عائلتها منعتها من مواصلة دراستها في تخصّص الإخراج السينمائي، وهو ما جعلها تنزوي في البيت وتنتظر الفرج، ومع مرور السنوات تخلّت عن حُلمها في الإخراج السينمائي، هكذا كانت تُحدّث طبيبتها. تطوّرت حالتها وأصبحت عدمية لا يُعجبها شيء ولا ترغب في شيء. بسبب ضغط عائلتها التي كانت ترغب في أن تلتحق ابنتهم  بكلية الطبّ، لأنّ تخصّصها كان علميًا. إلا أن حُلمها كان أبعد من ذلك. أرادت التحليق في عوالم الصورة والصوت فقتلوا أحلامها، وهو ما جلعها تردّد اليوم "أنا ميتة ميتة".

تتباين مواقف المصابين بحالة إحباط قوية، بين رفض الواقع وقبوله، بين انتظارات كبيرة وخيبة أمل، وبين اندفاع ورغبة وانكسار. ففي مستشفى العلاج النفسي والعقلي بالشّراقة في الضاحية الغربية للعاصمة، يُمكن أن تعثر على كثير من الحالات ممن صدمتهم الحياة بأحداث نراها بسيطة، لكن لها خدوش في الماضي القريب والبعيد.

ضغوط اجتماعية

تجدهم يتشبّثون بأي شخص يقصّ عليهم كيف حقّق حُلمه، أو حتّى الاستماع إلى مغامرة سفر. يعتقدون أن العالم الخارجي كلّه عبثي على حدّ تعبير أمير بن عبد الرحمن، الذي فقد كل ما له علاقة بالتعلّيم، بعدما وقع بينه وبين أستاذه في الجامعة بقسنطينة شجارٌ لفظي حول حل مسألة فكرية، ليجد نفسه خارج أسوار الجامعة، بل وغير مرغوب فيه حتى بين أصدقائه. يقول لـ"الترا جزائر" إنه لا يوجد شيء يفرق بين المتعلم والجاهل سوى خط رفيع اسمه "تقبّل الآخر"، مضيفًا أنّ أستاذه هو الذي جعله "مسخرة" بين زملائه، وهو القادم من سنوات الدراسة والتعب نحو عتبة السنة أولى جامعي، إذ أفقده مدرّسه كلّ شيء له طعم في الحياة، وقد "ألب عليه البعض من أهل الحلّ والربط في الإدارة، وحتى بعض الأساتذة، وكأنّه مجرم"، كما يقول بحسرة.

سعيدة ملياني: "بعض المرضى اصطدموا بالواقع، وظلّوا يُكافحونه بالأدوية والعقاقير"

في الشوارع ومحطّات الحافلات، كثيرة هي تلك الوجوه التي تفطر القلب، ويرتسم عليها الحزن. فلكلّ منها حكاية ووراءها قصّة، يُمكن أن تكون أحد المؤشّرات إلى "ظلم مجتمعي" في مكان ما، سواءً في الأسرة أو المحيط، تقول الأستاذة في علم النفس الأسري سعيدة ملياني لـ"الترا جزائر"، لافتة إلى أن عديد الحالات التي اعتمدتها في بحثها الأكاديمي في دراستها الجامعية، كانت من الفئات المتعلّمة على سبيل المثال لا الحصر، ليسوا سوى بشر فاقت طموحاتهم واقعهم، وتعدّت انتظاراتهم أسوار المؤسّسات التعليمية، وهو "ما يجعلنا اليوم نرى شخصًا كان متفوّقًا في دراسته، لكنه وصل إلى وضع حدٍّ لحياته". تضيف المتحدّثة أنّ بعضهم اصطدم بالواقع، ولم يستسلموا له بالتقبّل والتعايش، وظلّوا يُكافحون هذا الواقع بالأدوية والعقاقير، لتتحول حياتهم إلى مجرّد عبء على العائلة، على حدّ تعبيرها.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

صديقي المجنون

عالم مجنون جدًا