07-أكتوبر-2021

(صورة أرشيفية: نون بوست)

أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون الأخيرة حول تاريخ الجزائر وقضايا الاستعمار، جدلًا تاريخيًا وسط مؤّرخّين وأكادميين ومتهمين جزائريين، بين من يرى أن تصريحاته حملت مغالطات تاريخية ومحاولته للتقليل من شأن جرائم الاستعمار للتهرّب من المساءلة التاريخية وتعويض ضحايا الغزو الفرنسي للجزائر، وبين يؤكّد على توظيف الرئيس الفرنسي لورقة التاريخ الجزائري سياسيًا، تحسّبًا للانتخابات الفرنسية المقبلة، وأن الرسالة التي أطلقها موجّهة للسلطات الجزائرية التي أبدت تحولًا في التعامل الامتيازي مع باريس.

الباحثة ومان حورية: الاستيطان الفرنسي عمل على فرض ساكنة جديدة من المعمرين من أصول فرنسية وإسبانية وإيطالية ومالطية على حساب استئصال وإبادة الأهالي الأصليين

في تصريحاته الأخيرة، ذهب ماكرون إلى أن الجزائر كانت تحت استعمار آخر قبل الاستعمار الفرنسي، في إشارة إلى الفترة العثمانية بين عامي 1514 و1830، واتهم تركيا بأنها جعلت الجزائريين ينسون تمامًا الدور الذي لعبته في بلادهم، وعلّق: "إن الفرنسيين هم المستعمرون الوحيدون وهو أمر يصدقه الجزائريون".

اقرأ/ي أيضًا: الحراك والنظام السياسي والاستعمار.. ماذا وراء تصريحات ماكرون؟

دعا الرئيس الفرنسي إلى إعادة كتابة التاريخ الذي قال عنه أنه لا يستند إلى حقائق، وإنما يرتكز على "كراهية فرنسا"، وهي تصريحات تستدعي التساؤل عن صحة مقاربته التاريخية القائمة على إلغاء الأمة الجزائرية قبل 1830، والمقارنة بين التواجد العثماني والاستيطان الفرنسي، وما هي الخلفيات التاريخية والسياسية التي دفعت ماكرون إلى تبنّي الأطروحات الاستعمارية؟

مغالطات تاريخية

في سياق الموضوع، تعترف الدكتورة ومان حورية أمال، المؤرّخة في التاريخ المعاصر من جامعة بسكرة في حديث لـ "التر جزائر"، أن الكتابة التاريخية حول الفترة العثمانية لم تنل حقّها بشكلٍ كافٍ.

وأرجعت المتحدّثة سبب ذلك، أن الكتّاب الفرنسيون كانوا يرون أن تاريخ الفترة الرومانية المسيحية هي الجديرة بالبحث والدراسة، وهذا لأسباب استعمارية بحتة، على حدّ تعبيرها.

وبخصوص إسقاط ماكرون المقارن بين الاحتلال الفرنسي والوجود العثماني، قالت المؤرخة أن إسقاطاته ومقارباته تحمل مغالطات وأخطاء تاريخية، وأوضحت "هناك خلط بين الأتراك والخلافة العثمانية، إذ لم يراع ماكرون ضبط المصطلحات التاريخية وفق السياق الزماني والمكاني".

أن العلاقات الجزائرية والخلافة العثمانية، بحسب ومان، تميزّت بالطابع التعاوني، والمحافظة على الاستقلالية الإدارية والتنظيمية، ومن مظاهر التعاون بين الدولتين، تستشهد الباحثة، بدفاع البحرية العثمانية على السواحل الجزائرية من الهجمات الصليبية، والدفاع عن الساكنة الجزائرية من الإمبراطوريات الإسبانية والهولندية وغيرها.

هنا، تشير محدّثة "الترا جزائر"، أن الجزائر في ظل الفترة العثمانية تمتعت بالاستقلالية عن الباب العالي، إذ كانت تُبرم المعاهدات باسمها الرسمي، في حين أن باقي الدول العربية كانت تخضع إلى موافقة وترخيص الخليفة العثماني، على حدّ قولها.

وذكرت المؤرخة أن الداي حسين هو أول من اعترف بالدولة الفرنسية في 20 أيّار/ماي 1739 ليفك العزلة السياسية عنها، مشيرة أن البحرية الجزائرية قدمت مساعدات اقتصادية ودبلوماسية وعسكرية لفرنسا، وشواهد ذلك قائمة تاريخيًا، 'حين استنجد الملك هنري 2 بصالح رايس، وكما استنجد ملك فرنسا فرنسوا الأول بالجزائر ضد الإمبراطورية الألمانية وهولاندا وملك إنكلترا هنري الثامن".

هنا، تستغرب حورية ومان، من تساؤل ماكرون عن وجود أمّة الجزائرية قبل الاستعمار الفرنسي، وتردّ على هذا الادعاء بأن "عناصر الدولة كانت متوفّرة، من وجود أرض لها حدود مرسومة، وجماعة من الناس لها خصوصيات اجتماعية وثقافية ودينية، وسلطة عامة متكونة من إدارة مركزية ومؤسّسات محلية، واستقلال سياسي يحدّد العلاقة بين إيالة الجزائر والخلافة العثمانية".

وأفادت الأكادمية في تخصّص التاريخ المعاصر، أن التركيبة المجتمعية الجزائرية لم تعرف تغيّرات كبيرة في ظل التواجد العثماني، بينما الاستيطان الفرنسي عمل على فرض ساكنة جديدة من المعمرين من أصول فرنسية وإسبانية وإيطالية ومالطية على حساب استئصال وإبادة الأهالي الأصليين.

في الختام، دعت المؤرّخة إلى "مراعاة الظروف التاريخية والنسق التاريخي وعدم التأويل الواقع لدعم النظرة التاريخية الاستعمارية".

تأويل التاريخ 

من جانبها، قالت الدكتورة مليكة عساس، المختصّة في تاريخ الحضارة العربية والإسلامية من جامعة تيزي وزو في حديث إلى "التر جزائر"، أنّه تجدر الإشارة أن توقيت تصريحات ماكرون جاء قبيل الانتخابات الرئاسية الفرنسية.

تستطرد المتحدّثة، أن الحديث موجّه إلى أطراف من اليمين المتطرف، المعروف بعدائه لمستعمرات فرنسا القديمة والمستقلة، خاصة الجزائر.

وتابعت أن ماكرون يحاول استمالة وكسب أصوات فئة من أنصار الجزائر الفرنسي، حيث أن رسالة ماكرون، حسبها، موجهة للسلطات الجزائرية أيضًا، والتي أبدت تحولًا في التعامل الامتيازي مع باريس.

توضّح عساس، أنّ أَوجُه التَحوُل في عدم التوافق على سياسة ترحيل الجزائريين، وعدم الموافقة على شروط شركة رونو للسيارات، وإنهاء عقد الشراكة بين المتعامل الفرنسي والشركة الجزائرية للمياه، وعدم تجديد عقد تسيير متروا الجزائر، على حدّ قولها.

 

فرنسا والدولة العثمانية

وبخصوص الشق التاريخي، تقول عساس، إنّه لا يمكن مقارنة الوجود الفرنسي في الجزائر بالوجود التركي من عدة زوايا؛ منها أن الدخول العثماني جاء بطلب من سكّان الجزائر لمواجهة الخطر الأوروبي.

وتابعت المتحدّثة، أن الانضمام إلى الخلافة الإسلامية العثمانية يعد أمرًا مقبولًا بالنسبة إلى ساكنة تدين بالإسلام. أمّا بخصوص التجاوزات التي أشار إليها ماكرون، فاعتبرت أن فرض الجبايات والضرائب يشكّل آلية من آليات إدارة الخلافة والدول عمومًا.

في المقابل، ققالت الأكاديمية، إن فرنسا دخلت عبر شنّ حرب عسكرية وإبادة، طردت فيها الأهالي من القرى والأرياف، وسلبت أرضيهم وسلمتها للمعمرين، مشيرة إلى ارتكاب المستعمر الفرنسي مجازر موثقة تاريخيًا، حيث عانى الأهالي في الجزائر من الجوع والأوبئة جرّاء التهجير والترحيل والفقر.

مليكة عساس: لم يرتكب العثمانيون مجازر جماعية ولا محاولة استئصال هويّة شعب أو لغته أو عقيدته الدينية باسم الحضارة

طيلة فترة الوجود العثماني، بحسب عساس، لم تسجل أيّة إبادة وتهجير قسري وبناء محتشدات، ولم يرتكب العثمانيون مجازر جماعية ولا محاولة استئصال هويّة شعب أو لغته أو عقيدته الدينية باسم الحضارة. 

من الجانب الرسمي، يبدو أن الجزائر تصرّ على رفع لغة التصعيد مع فرنسا من خلال الخطابات الرسمية الصادرة عن مؤسّسات الدولة، وإغلاق المجال الجوي أمام الطائرات العسكرية الفرنسية ردًا على تصريحات ماكرون، الذي يبدو من جهته، أنه تراجع عن كلامه الأخير، بدعوته الطرف الجزائري إلى لغة الحوار، وأمله في عودة الهدوء إلى العلاقات الفرنسية الجزائرية.